الملك سعود يقف إلى جانب الكويت
استفاق العالم العربي ذات يوم في 26 حزيران سنة 1961 م على نبأ أذيع في العراق وتناقلته جميع محطات الإذاعات في العالم العربي والدول الكبرى مفادة أن اللواء عبد الكريم قاسم ينوي ضم الكويت إلى العراق . وقد أعلن قاسم في مؤتمر صحفي عقده في بغداد (25 حزيران 1961م) أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق ، وقال :" لن نتركه لزمرة من المشايخ والإقطاعيين" . وأكد اللواء قاسم بالاستناد إلى وثيقة تاريخية في حوزته يعود تاريخها 50 سنة إلى الوراء أن الكويت كانت جزءاً من ولاية البصرة في العهد العثماني ، إلا أن بريطانيا عقدت اتفاقا مزورا مع آل الصباح الذين استفادوا من وهن الحكومة العثمانية فصلت بموجبه الكويت عن العراق . ومضى اللواء قاسم يقول إننا سنخلص أهل الكويت من نير الإقطاع وحكم زمرة من المشايخ الذين يتلاعبون بمقدرات البلاد ويستغلون ثرواته ، ووصف اللواء قاسم الاتفاق الجديد الذي عقد في الأسبوع الفائت بين بريطانيا وحاكم الكويت بأنه ضربه موجهة إلى العراق وأهل الكويت معا . وأضاف يقول : لذلك سنصدر مرسوما جمهوريا بتعيين حاكم الكويت " الجليل " قائم مقام في الكويت تابعا للواء البصرة . وسوف ينذر الشيخ بالتقيد بهذا المرسوم وإلا اعتبرناه خارجا على القانون متمرداً .وأكد اللواء قاسم أن حدود العراق تمتد حتى جنوب الكويت.
وفي الواقع أن مناورة اللواء قاسم هذه لا تزال دوافعها غامضة ، وأتت لتؤكد غموض الرجل وطبيعته . وقد وصفته مصادر مختلفة بالرجل الغامض حتى الجنون ولسنا هنا في معرض إنصافه . زعم البعض بقولهم إن بريطانيا دفعته إلى القيام بمثل هذه المناورة رغبة منها في تثبيت زعامته لمقاومة نفوذ الرئيس ناصر في المنطقة ، وآخرون اعتقدوا أن الاتحاد السوفيتي دفعة إلى مقاومة نفوذ بريطانيا وإخراجها من بلاد الخليج . وقد يكون في هذا الاعتقاد أو ذاك شيء من الصحة ، غير أن تطورات الأزمة وعزوف اللواء قاسم عن احتلال الكويت فجأة ثم عودته إلى التهديد بعد تراجعه ثم تراجعه ، إلى ما هنالك من تباين في مواقفه المترددة تارة والحازمة تارة ، إن دلت على شيء فإنما كانت تدل على أن في نية قاسم الظهور بمظهر البطل العربي الذي يستهدف دحر بريطانيا على الأقل أمام الرأي العام . لقد كان يأمل في أن يتبوأ من جّراء هذا العمل الزعامة العربية على حساب بريطانيا وجعلها تعاني نفس المصير الذي عانته في مصر ، لكن مناورته ظلت مجرد مناورة فاشلة قام بها إثر جلاء الحكم البريطاني عن الكويت ومنحها استقلالها.
إزاء هذا التهديد ، أعلنت حكومة الكويت حقها في دفاعها عن استقلالها ، وأنها واثقة من أن جميع البلدان الصديقة والمحبة للسلام وعلى الأخص الدول العربية الشقيقة ستؤيدها.
وفي 26 حزيران 1961 م، ولم تكن قد مضت 24 ساعة بعد على تصريح اللواء قاسم ، أعلن الملك سعود في بيان أذاعه راديو مكة " أن الكويت والمملكة العربية السعودية بلد واحد . وأصدر الملك سعود بيانه بعد أن اتصل به الشيخ عبد الله السالم الصباح تلفونيا واستنجد به ، وتعقيباً على مطالبة العراق بالكويت قال : " يجب أن يكون معلوما لدى الجميع أن الكويت والمملكة السعودية بلد واحد وإن ما يمس الكويت يمس المملكة السعودية وما يمس المملكة السعودية يمس الكويت " . ثم بعث الملك برسالة إلى الشيخ عبد الله السالم الصباح حاكم الكويت رداً على رسالة تتلقاها منه تتعلق بمطالب اللواء قاسم وقال فيها : " إننا لن نتوانى عن تقديم أية مساعدة للكويت ووصف مطالب اللواء قاسم بأنها خطيرة ومؤسفة ".
والواقع أن بين الكويت والسعودية تاريخا مشتركا فضلا عن الحدود المشتركة ويكفي أن نذكر أن آل سعود - زمن الامام عبد الرحمن الفيصل - ظلوا ردحا من الزمن مقيمين في الكويت ، أن سعود ولد في الكويت ، فالكويت موطنه الثاني ، وأهم من هذا كله فالملك سعود هو درع يقي المنطقة من الأفكار الهدامة التي زاد في انتشارها عهد اللواء قاسم.
وعلى أثر هذه التهديدات ، حشدت الجيوش الكويتية والعراقية بعض فرقها على الحدود المشتركة مابين البلدين وأخذ شباب الكويت ومشايخها يتدربون على استعمال البنادق الحديثة والرشاشات . وقطع جميع المشايخ والشخصيات الكويتية إجازاتهم وعادوا إلى موطنهم للذود عنه.
وللحال دعا الملك سعود مجلس وزرائه إلى عقد جلسة طارئة وبحثوا الموقف . وفيما كان الذعر مسيطراً على الكويت وكانت مظاهرات عدائية لقاسم في الكويت تقابلها مظاهرات عدائية للكويت في بغداد ، أوفد الملك سعود قائد الجيش السعودي للاجتماع بالمسؤولين في الكويت تمهيداً لعمليات دخول الجيش السعودي إلى الكويت ولم يكتف بل أرسل برقيات ورسائل إلى قادة العالم العربي يناشدهم تأييد الكويت في كفاحه ضد الاعتداء القاسمي.
وفيما كانت الجامعة العربية تعقد جلسة طارئة للنظر في الموضوع وإيفاد السيد عبد الخالق حسونه الأمين العام للجامعة إلى العواصم المعنية لتسوية النزاع ، أعرب المستر داغ همرشولد عن أمله بأن تسود الأساليب الإنسانية في نزاعات الشرق الأوسط ، ومنها النزاع الراهن حول الكويت.
ثم أرسل الملك سعود رسالة إلى الملك حسين يدعوه فيها للوقوف إلى جانب الكويت كما أرسل جلالته كتابا حمله إلى الرئيس عبد الناصر وزير الخارجية السيد إبراهيم السّويل ، وجاء في رد الرئيس ناصر إلى الملك سعود " إن استقلال الكويت يعكس إرادة شعبه الحرة وهو القضية التي تعنينا في الوقت الحاضر ، لذا فإنه من واجبنا أن نبذل الجهود المستمرة لإبعاد كل خطر يهدد هذا الاستقلال.
وكان لابد من عمل حاسم قبل أن يفوت الأوان ويدخل قاسم بجيشه إلى الكويت . فدخل في 29 حزيران الجنود السعوديون إلى الكويت وبدءوا يقومون بدوريات متواصلة على الحدود العراقية . وكان الجيش السعودي أول جيش عربي يدخل الكويت ، فهلل له الكويتيون وتنفسوا الصعداء وخرجوا من دورهم ليمارسوا أعمالهم كالمعتاد . كذلك نزلت الوحدات البريطانية إلى شطآنها.
وعلى أثر التطورات في الموقف استأنف مجلس الوزراء السعودي اجتماعاته الطارئة صباح 2 تموز برئاسة الملك سعود . وأطلع المجلس على الرسالة التي حملها وزير الخارجية السعودي إبراهيم السويل ردا من الرئيس ناصر إلى الملك كما استمع إلى عرض قدمه وزير الخارجية عن مقابلته للرئيس عبد الناصر في الإسكندرية.
وفي هذه الأثناء كانت البرقيات لا تزال تنهال على الديوان الملكي السعودي من مختلف أنحاء المملكة ومن الشباب العرب في البلاد ، وهي جميعها تحمل التأييد المطلق لموقف الملك سعود من الأزمة الكويتية وتشيد بالموقف الذي اتخذه لنصرة الكويت والحفاظ على استقلالها . فاستنفر الجيش السعودي وأمر الملك بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة جميع ضباط وأفراد الجيش والطيران والمجازين بضرورة الالتحاق بوحداتهم فوراً.
وحقنا للدماء كعادته ، بعث سعود الأول ملك العرب وإمام المسلمين في هذا الجو المشحون بالتوتر ، إلى اللواء قاسم ،وفي أول تموز برقية تاريخية كان لها وقع خاص في نفس قاسم كما كان لها أطيب الأثر في نفوس العرب والمسلمين جميعا ، وهذا نصها .
" سيادة اللواء عبد الكريم قاسم " بغداد
نبعث لسيادتكم بأطيب تحية ، بلغني ما زاد في قلقي بالنسبة للموقف بين البلدين الشقيقين العربيين الكويت والعراق .
فأناشدكم باسم الله والوطن والعروبة أن تتجنبوا كل سبب يؤدي لاضطراب العلاقات بين العرب أنفسهم بل إلى صدامهم في وقت هم فيه أشد ما يكونون بحاجة إلى جمع كلمتهم ودعم قوتهم للوقوف في وجه أعدائهم ".
سعود
وقد حذر جلالته في تصريح لا حق إلى خطر حشد الجيوش الإسرائيلي على الحدود السورية وضرورة التنبه لمواجهة العدو المشترك بدلا من مخاصمة العرب بعضهم لبعض .
وقد أذاع الملك سعود في يوم 6 تموز سنة 1961م مفنّداً ما جاءت به إذاعة بغداد من تشويه للحقائق .
وقد ألقى الملك سعود هذا الخطاب الإذاعي بحضور السيد عبد الخالق حسونه الأمين العام لجامعة الدول العربية ، والشيخ جابر الأحمد الصباح وزير مالية الكويت في قصره بالطائف .وكان يرافق الوزير السيد عبد العزيز الصقر .
وقال الملك سعود " أنه لا يمكن أن تكون هناك مساومة أو وساطة على استقلال اعترف به الجميع .( والغريب أن العراق هو أو من اعترف باستقلال الكويت ) وإن المطلوب من الجميع على العكس هو أن يبذلوا جهودهم لحماية هذا الاستقلال ".
وجاء خطاب الملك سعود ردا على الرسالة التي حملها إليه الشيخ جابر الأحمد الصباح والتي شكر له فيها أمير الكويت مساندته الكلية لبلاده . وقال : " إننا في هذه البلاد ، أمراء وشعب ، على استعداد تام للدفاع عن وطنكم كما لوكان وطننا ".
وأكد يقول : " ليس لنا أي مطمع ولا أي غرض في الكويت ، وكل ما نريده هو أن يكون الكويت دولة حرة مستقلة ملكا لأهلها الذين نلتزم بمساندتهم في السراء والضراء.
وختم جلالته خطابه بقوله:
" أريد أن يكون الكويت عضوا عاملا مكرما في الجامعة العربية ، ونريد أيضا أن يكون عضوا في الأمم المتحدة وفي جميع المنظمات الدولية التي تعمل من أجل السلام وأمن الإنسانية".
لم يكن موقف الملك سعود بالشيء الجديد ، تذكره العرب في قضية السويس تذكره العرب في قضية البريمي ، وتذكره العرب في مواقفه من حلف بغداد ومشروع أيزنهاور ، لقد عرفه العرب طوال حياته السياسية يلتزم دائما المواقف المشرفة من القضايا العربية والإسلامية ، ويناصر دوما المظلوم ويجابه المعتدي.
وكانت النتيجة أن تراجع اللواء قاسم وانسحب الجيش البريطاني على دفعات ، وعاد الجيش السعودي إلى قواعده حائلا دون زهق للدماء العربية . وأقرت أخيراً الجامعة العربية عضوية الكويت في 20 تموز 1961 م بتأييد جماعي ، ومثل الكويت فيها السيد عبد العزيز حسين .
مقابلة مع عبدالرحمن التركي - سفير المملكة فى العراق عام 1961م
العمل الدبلوماسي تكتنفه الكثير من الخبايا والأسرار ، والدخول فيه ليس بالأمر الهين
كيف التحقت بالسلك الدبلوماسي وكيف كشفت مخطط عبد الكريم قاسم ؟
- بمسعى كريم من المرحوم إبراهيم السليمان العقيل انتقلت إلى السفارة السعودية في القاهرة للعمل الدبلوماسي وهو أمر غير في حياتي الكثير ، وقد صدر أمر ملكي بذلك ثم رشحني المرحوم إبراهيم السويل وزير الخارجية وقتها ، وبأمر من المرحوم الملك سعود بتمثيل المملكة في أعياد ثورة العراق عام1961م وكان حينها عبد الكريم قاسم رئيسا لجمهورية العراق.
وأذكر أنه في أثناء تحركي معه وجه حديثه لأعضاء حكومته قائلاً : " من مضيق هرمز ، مرّوا بدول الخليج من غير استثناء حتى السعودية تتبع جميعها إلى لواء البصرة العراقي".
بادرت مباشرة بإرسال برقية عاجلة إلى الديوان الملكي مع صورة إلى وزارة الخارجية بما قاله الرئيس العراقي أمامي ، تحركت الخارجية السعودية وطلبت من جامعة الدول العربية إرسال الجيش ، فكان أن أرسل جيش عربي قوامه 2202 جندي من مصر والسودان والأردن والسعودية برئاسة السعودي اللواء عبد الله عبد العزيز العيسى ، فأوقف طموح الرئيس العراقي الذي كان سيغير مجرى التاريخ ، لم أكن أعلم أن تلك الأسطر القليلة ستغير التاريخ أو أنها ستتكرر بعد عقود .
كان واجبي وقتها اتجاه وطني أكبر من التفكير في المساهمة بتغيير التاريخ.
الشرق الأوسط
الجمعة 23 / 12 / 2005 العدد (9887 ).