• عندما تحركت القوات البريطانية على حدود اليمن...
هذه هي البرقية التي كانت تنتظرني في تعز ، وقد بلغت الفتنة اليمنية أشدها ، و المرحوم عبد الله في معسكر المدينة " المرضى " أرسله أخوه الإمام ليخمد فتنة الجيش ، فانضم إلى الجيش ونصب نفسه إماما بالقوة .. والإمام الشرعي محاصر في قصر " المقام " .. وابنه الأمير الشجاع يتحفز للوثوب من حجة على رأس ثلاثين ألف محارب من أبناء القبائل .. والقوات البريطانية تتحرك على الحدود في انتظار الأمر بالزحف .. والملك سعود يأمر قواته بالتقدم لنجدة أخيه الإمام احمد ..
والبكباشي حسين الشافعي ينظم المعركة في جانب الحق والحرية ، طبقا للخطة الموضوعة في القاهرة ، خطة اشترك في وضعها الرئيس جمال عبد الناصر والأمير فيصل آل سعود.
وسط هذه العاصفة الملتهبة ، كانت " صرخة العرب " تلاحقني لا سجل لها الحقائق التاريخية السليمة .
وراء الفتنة يوما بيوم
6 شعبان 1374.
ثلاث جنود يخرجون مع الصباح إلى قرية الشعبانية ليقتحموا بيت فلاح ويغتصبوا منه حطبا ولكن الفلاح قام إليهم وشج رأس واحد منهم ، فذهبوا وعادوا بعشرة جنود والتحم الفلاحون والجند حتى سقط من أهل القرية المجاورة لتعز ثلاثة وانسحب الجند وهم يحملون أربعة قتلى منهم !
عادوا إلى المعسكر يطلبون إلى المقدم أحمد بن يحيى الثلاثي أن يأمر بحملة لتأديب الفلاحين فذهب إلى السيف عبد الله في وزارة الخارجية ثم عاد ليخبر الجند بان الإمام لا يوافق على هذه الفوضى ، فثار الجند واخذ الثلاثي يعبئ حماستهم ويهيئهم لموقف غد.
7 شعبان.
تحركت حامية تعز وعددها 600 جندي إلى منطقة الحوبان فأحرقوا قراها السبع بادئين بالشعبانية التي بدأت فيها الشرارة.
أمر الإمام أحمد شقيقه السيف عبد الله بالتدخل لتهدئة الحالة ، فذهب إلى المعسكر، وبعد ساعة تلقى الإمام احمد نبأ عصيان الجند ورأى من نوافذ قصر " المقام " القرى السبع وهي تحترق ، فأمر باعتقال الثلاثي وكل معاونيه ، فكان الجواب هو:
" أذا لم تتنازل عن عرش اليمن للأمير سيف الإسلام عبد الله حتى الساعة الحادية عشرة فستضرب " المقام " بالمدافع . معلم الجيش المقدم أحمد الثلاثي " وبدأ الحصار المسلح .
رفض الإمام هذا التهديد ، وهو ضجيع المرض في قصر " المقام " وطلب إلى الجيش أن يكون هذا الطلب بموافقة العلماء وأهل الرأي فدارت السيارات العسكرية تجمع العلماء وأهل الرأي واجتمعوا في شبه مؤتمر داخل المعسكر وصدر إليهم أمر الثلاثي بالتوقيع على عريضة يطلبون فيها تنازل الإمام للسيف عبد الله ، فرفض العلماء ، وذهب وفد منهم إلى الإمام يرجونه إنقاذ اليمن من المحنة.
كتب الإمام تنازلا عن الأعمال للسيف عبد الله ، وكان تنازلا عن الأعمال فقط ، على أن تسير بمقتضى الشرع ، ويرجع إلى الإمام أحمد بالرأي والمشورة.
قرأ الثلاثي على العلماء هذا التنازل على انه تنازل عن الإمامة والملك ، وطالبهم بالبيعة لعبد الله أو يبقوا أسرى في المعسكر ، فبايع العلماء وأهل الرأي مكرهين ، وبذلك أعلن عبد الله انه إمام اليمن بمقتضى التنازل المزعوم والبيعة المغتصبة!.
8 شعبان.
سافر الأمير الحسن بن على إلى صنعاء ليأخذ البيعة للأمام الجديد فبايعت صنعاء، وأبرقت إلى الأمير الحسن في القاهرة فأجاب مرحبا ومبايعا أخاه السيف عبد الله .
وذهب القاضي أحمد الشامي نائب لواء البيضاء باسم اخذ البيعة من العلماء ، فحرض القبائل إلى السفر فورا للانضمام إلى قوات سيف الإسلام البدر في حجة.
وذهب احمد نعمان إمام الشافعية إلى الحديدة ليأخذ البيعة من نائبها والعلماء والأعيان ، فقصد إلى الأمير البدر وأنبأه بان الإمام محاصر في قصره ، فأبرق إلى عبد الله يحذره من أي مساس بحياة الإمام ونصحه بالعودة إلى صوابه وسافر مسرعا إلى حجة لينظم صفوف ، القبائل للوثوب على تعز وصنعاء ، ليفك حصار أبيه ويعيد العقول إلى الرءوس.
علم جلالة الملك سعود والرئيس جمال عب الناصر بأنباء الفتنة لأول مرة ، وان تعز في عزلة تامة عن العالم.
" بين الرياض والقاهرة "
علمت القاهرة والرياض بأمر العاصفة ، فبدأت برقيات الشفرة للاتفاق على الخطة ، واجتمع الرئيس جمال بسمو الأمير فيصل ، ثم انضم إليهما الصاغ صلاح سالم والبكباشي حسين الشافعي.
وخرج الشافعي من الاجتماع مكلفا برياسة البعثة المصرية السعودية لنجدة الإمام أحمد والوقوف إلى جانب الحق الشرعي في اليمن ووقايتها من العدو المرابط على حدودها..
" قوات سعود تتحرك "
9 شعبان.
أصدر جلالة الملك سعود أمره بالتقدم إلى حدود اليمن ، عندما علمت الرياض بأن القوات البريطانية تحركت إلى " البيضاء " ورابطت في " المندب " و " شبوه " وصل وفد من الأمير البدر إلى الرياض وروى للملك سعود تفاصيل الموقف ، ثم جاءت الأنباء بأن القتل والقتال في تعز على أشده ، والإمام أحمد يحاول الخروج من قصره فلا يستطيع ، وقد قطعوا عنه الماء والطبيب.
وصل البكباشي أركان الحرب حسين الشافعي على رأس بعثة مصر ، واجتمع بجلالة الملك سعود ، وبدأت الاتصالات " الشفرية " بين الرياض وحجة.
وقضى الشافعي في قصر الضيافة بالرياض يومين في مباحثات مع جلالة الملك سعود والشيخ يوسف يس والشيخ خالد أبو الوليد والشيخ جمال الحسيني والشيخ عبد الله بالخير ووفد الأمير البدر.
" خطة المعركة لقمع الفتنة "
ثم اختلى الشافعي بأعوانه زهاء ست ساعات وضعت خلالها خطة قمع الفتنة بالقوة إذا لزم الأمر.. وأبرق إلى القاهرة .. لتستعد .
وتألف الوفد السعودي من الأمير فهد بن عبد العزيز والأمير محمد ابن سعود والشيخ جمال الحسيني واتفقت كلمة البعثة المصرية السعودية على ما اتفقت عليه القاهرة والرياض:
• حقن دماء الشعب اليمني الشقيق.
• المحافظة على حرية اليمن.
• الوقوف إلى جوار الحق الشرعي في حكم اليمن.
• المناداة بالأمير البدر وليا للعهد.
فإذا سأرت الفتنة نحو غايتها ، فلابد من استخدام القوة في تحطيم هذه المؤامرة .
" مؤامرة لقتل البدر.. "
بايع الأمير العباس نائب صنعاء الإمام الجديد ، شقيقه السيف عبد الله ، لأول لحظة ، ثم سافر العباس إلى حجة ليتخلص من البدر قبل هجومه على تعز ، وطلب أن يلتقي بالبدر منفردين في مكان وزمان حددهما فقبل البدر اللقاء مع عمه ، ثم أرسل إليه قوة اعتقلته مع صحبه ، وساقهم البدر إلى تعز مقيدين بالأغلال..
فكان وصولهم كالصاعقة على قلب الإمام المزعوم .. ولاحت في الأفق أشعة النصر للإمام الشرعي.
" محاولات استعمارية "
12 شعبان
البدر في حجة يثير القبائل ويقرأ عليهم برقيات الملك سعود والرئيس جمال عبد الناصر ، وان مصر والسعودية ضد هذه الفتنة الأجنبية وإنهما تقفان بجانب الإمام احمد وولى عهده البدر والبعثة المصرية السعودية في طريقها إلى تعز لمقابلة الإمام أحمد .
علم البدر بان محمد احمد يحيى حميد الدين مدير شركة البترول في " الصليف " قرر أن يزحف على حجة ليأخذ البيعة للسيف عبد الله فقرر البدر مهاجمة هذا المتآمر، ولكنه رأى المدافع البريطانية من خلفه ، فأرسل إليه من اختطفه والقي به في سجن حجة.
كان ذلك في حجة ، أما في تعز فقد شهدت المعركة فيها رصاصا ينطلق من بيت القائم بأعمال المفوضية البريطانية بقصد المحافظة على سلامة من فيها ، ولكن الرصاص كان في اتجاه المدافع التي كانت تضرب قصر " المقام ".
وكانت محطات إذاعة عدن والشرق الأدنى ولندن تؤيد الإمام الجديد ، وتدعو له بالعز والتأييد.
" الإمام يخرق الحصار.. "
رغم عزلة تعز ، كانت الأنباء تصل إليها وتخرج منها بوساطة العدائيين وراكبي الخيل والجمال.
وسط النيران ، خرج طفل صغير من قصر المقام يحمل رسالة من الإمام أحمد إلى القبائل تقول:
" أين إبطال حاشد وبكيل أمامكم محاصر في قصره بوساطة بعض أفراد الجيش المشوشين بأفكار ودسائس أجنبية ، إلى البدر يارجال في حجة ".
أقتضى الموقف أن يخرج بعض الذهب لقمع الفتنة ، فأمر الإمام أحمد " الحريم " بالانتقال إلى قصر " صالة " الحصين ، فأمر الثلاثي بتفتيشهن ، فثار الإمام ونفض عنه غطاء العلة الشديدة وخرج إلى الجند ، وعرض صدره لبنادقهم ، وهو يقول : " جربوا أن تضربوني ، سيسقط الرصاص أمامي كأنه البعر" .
وبذلك استطاع أن يخلى سراح السيارات الثلاث التي كانت تقل الحريم وكان يوجه مدفعه الرشاش المنطلق إلى جوار السيارات حتى غادرت تعز في طريقها إلى قصر " صالة " الذي خرجت منه الرسائل والنفقات إلى جنوب اليمن ، والبدر في الشمال يحشد قوات القبائل ..
وأبوه في " المقام" وحده يستعد للقتال..
" النصر مقدما .. "
كان عبد الله والثلاثي قد اتفقا على انقلاب ابيض ، يحاصر فيه الإمام حتى تتم البيعة ويصبح إمام الأمر الواقع ، ولكن طلائع جيش البدر ، وصلت فجأة إلى جبال تعز ، ثم تسربت إلى الإمام ، عند ما كان قد تمكن بواسع حيلته من دعوة بعض الجند الذين يحاصرونه إلى تناول الغداء معه ، حيث استمالهم إليه ثم يخرجون ليعود غيرهم ، هكذا حتى انقسم الجيش على نفسه وبدأت المعركة ، وسقط واحد من أتباع الإمام ، و23 من الخارجين عليه ، علامة النصر ، فانهارت قوة الثلاثي عندما كان أتباعه يتناقصون حتى وصلوا 40 من 600 جندي فقرر الفرار ، وهكذا اعتزم عبد الله ، وأعلن الإمام عفوه الشامل عمن يسلم نفسه ، فأقبل الباقون مختارين ليطعموا من جوع ، وليأخذ لكل مهم 50 ريالا.
" اعتقال .. وإعدام .. "
13 شعبان.
أرسل الإمام أحمد إلى البدر أن يبقى في مكانه ، وعلمت مصر والمملكة السعودية أن الإمام قد حطم الحصار ، وجذب عساكره إلى صفه ، وسيطر على الموقف ، واعتقل أتباعه عبد الله والثلاثي بالقرب من الحدود ... ونفذ حكم الإعدام في الثلاثي ومعه ستة من أتباعه المتمردين ، أمام عبد الله والعباس وأتباعهما الذين كانوا مقيدين معهم بالأغلال في وزارة الخارجية .
وصلت البعثة المصرية السعودية لتهنئ الإمام بنصره ، ولتعلن أن الأمير البدر هو ولى العهد الشرعي ، بعد صلاة الجمعة في مسجد " العرضى" وسط مظاهرة من جماهير تعز التي أقبلت مبتهجة مهنئة .
" لقاء البدر.. "
14 شعبان.
طارت البعثة إلى الحديدة فاستقبلت استقبالا حماسيا منقطع النظير ، واجتمعت بالأمير البدر في القصر الكبير ، ودام الاجتماع حتى منتصف الليل ، ومشاعل النصر تضئ المدينة حتى الصباح.
وقد وضعت النقط فوق الحروف في هذا الاجتماع ، وتقرر أن تنتقل اليمن إلى عهد استقرار وأمن ونهوض ولابد أن تخرج مشروعاتها لاستغلال ثرواتها إلى حيز التنفيذ.
ثم طار البدر مع البعثة إلى الرياض لشكر جلالة الملك سعود على موقفه النبيل ، وعاد الشافعي إلى القاهرة يحمل شكر الإمام احمد وولى عهده البدر إلى مصر .. والى الرئيس جمال ، وليكتب تقريرا بمراحل الفتنة وإخمادها وسلامة اليمن من غدر الألاعيب الاستعمارية ، وأرسل هذا التقرير فورا إلى باندونج .
ونقل عبد الله والعباس إلى حجة حيث تم إعدامهما بالسيف في صباح منتصف شعبان ثم دفنا مقيدين بالأغلال بعد غروب الشمس.
وبهذا أخمدت الفتنة ، وتركت لنا أعظم العبرة ، وان الشهوات الدنيوية لا تحقق غير الهلاك لا صحابها ، وان الجزيرة العربية لم تعد تصلح مسرحاً للألاعيب الاستعمارية ، وان التيار الذي جرف العراق لا يمكن أن يجرف اليمن ، البلد الذي يدفع لعروبته وحريته أغلى ثمن!
بقلم : عبد العليم المهدى
دور الملك سعود فى الفتنة اليمنية 1954
مجلة صرخة العرب –مايو 1955 –العدد الخامس