المملكة واليمن.. علاقة «الجسد الواحد»

الرياض، تحقيق - منصور العساف
 
    تظل العلاقات السعودية اليمنية مثالاً حياً وواقعاً مشاهداً لعمق العلاقات بين الأقطار والبلاد العربية، لاسيما وأنهما يمثلان الجزء الأكبر مساحةً في الجزيرة العربية سواءً من الناحية الجغرافية أو الديموغرافية، ولا شك أن رابطة العقيدة ممثلةً برسالة الإسلام النقية، تعد أولى هذه الروابط المتجذرة، ثم إن روابط النسب والجوار والإرث الحضاري المشترك، تظل إحدى صور ودعائم العلاقة الأخوية المتينة بين أبناء المملكة وأشقائهم في اليمن السعيد، ومن يتصفح التاريخ سيلحظ الاتساق المشترك في المبادئ والأطر والسياسات الشعبية والرسمية للبلدين، ولا أدل على ذلك إلاّ تلك الشواهد التي ما زالت كتب التاريخ حبلى بكثير منها، والتي لا تقف على حقبة معينة أو عصر من العصور، ولعلنا هنا نقف على نزر يسير من جذور العلاقة المتينة بين البلدين الشقيقين، لاسيما فيما يتعلق بالروابط الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، وقبل ذلك رابط الدين، حيث شرفهم الله بحمل ونشر رسالة الإسلام الخالدة.
 
نسب واحد
 
تتأصل جذور العرق والنسب بين أبناء المملكة واليمن فهم من أقحاح العرب الذين انتشر أبناؤهم في محيط العالم العربي الكبير، ولا شك أن قبائل العرب بجذميها "عدنان" و"قحطان" تعد المكون الرئيس لأبناء الجزيرة العربية التي تمثل اليمن والمملكة الجزء الأكبر منها، وليس ثمة ريب في أن عوامل الجغرافيا والديموغرافيا شكلت لأبناء البلدين نسيجاً مجتمعياً ساهم -وما زال يساهم- في تقوية وتعزيز وحدة البلدين الشقيقين، لاسيما أنّ عوامل النزوح والتنقل والهجرة كانت إحدى أهم أسباب انتشار أبناء العرب الأوائل من "ربيعة" و"مضر" أبناء "نزار بن معد بن عدنان" وقبائل "حمير" و"كهلان" أبناء "سبأ" من "قحطان"، لإعمار معظم أقاليم الجزيرة العربية التي قبض -رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهي جميعاً ترفل في نعيم رسالة الإسلام، ولا شك حينها أن هذه القبائل التي هي امتداد طبيعي لقبائلنا الحاضرة كانت تعيش لحمة ووحدة مشتركة في أنسابها وأحسابها وموروثها الثقافي والاجتماعي، حيث تهاجر قبائل الجنوب للشمال وقبائل الشمال للجنوب، ولا أدل على ذلك إلاّ قبائل "كندة" و"الأوس" و"الخزرج" و"طيء" و"المناذرة" و"الغساسنة"، وكلها قبائل يمانية انتشرت في فضاء جزيرة العرب خارج أرض اليمن، التي استقبلت هي الأخرى بطون سلالات من بني "نزار" من "ربيعة" و"مضر"، لاسيما قبائل "أكلب" و"الأشراف"، ناهيك عن صور التضامن والتحالف القبلي الذي يتجلى في صورة أكبر أمام التحذيرات والتهديدات التي تطال لحمتهم ومكونهم الاجتماعي.
 
لقد شهد العصر الجاهلي وما تلاه من العصور الإسلامية الزاهرة صور من التلاحم والتعاضد بين أبناء الجزيرة العربية في كافة جبالها ووهادها، فرغم بعض النزاعات القبلية فيما بينهم، إلا أنّ أمرهم ورايتهم –كعرب– تظل رايةً واحدةً، وهو ما دلت عليه المعارك التي خاضتها القبائل العربية مع خصومهم من غير العرب، كما حدث ذلك في معركة "ذي قار"، وهم على الرغم من تنازعهم القبلي لم يستنجدوا بالشعوب المجاورة، إلاّ حين يكون الخصم المناوئ من غيرهم، كما فعل "سيف بن ذي يزن الحميري" في طرده للأحباش، وهذا "لَقيطِ بنِ يَعمُر بن خارجة الإيادي"، شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة، صاحب القصيدة التي مطلعها "يا دار عمرة من محتلها الجرعا"، وهي من عيون الشعر العربي، حيث بعث بها إلى قومه "بني إياد"، ينذرهم بأن "كسرى" وقومه "الفرس" يتحينون الفرصة لغزوهم، والاستيلاء على بلادهم، حيث أخذته حمية لبني عمومته وأهله في الجنوب العربي، رغم أنّه كان يقطن في أقصى الشمال الشرقي للجزيرة العربي، ومع هذا أرسل لهم يقول:
 
يا دار عمرة من محتلها الجرعا
 
هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
 
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا
 
على نسائكم كسرى وما جمعا
 
يا أيها الراكب المزجي على عجل
 
إلى الجزيرة مرتادا ومنتجعا
 
علاقة متقدمة
 
ويرى المؤرخ والباحث "إبراهيم بن عبدالعزيز آل الشيخ" أنّ العلاقات الشعبية والرسمية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية متأصلة على مدى القرون وتعاقب السنين، قائلاً: "بيننا في السعودية وبين أشقائنا في اليمن علاقة جذور تاريخية لا تقف على علاقة الدم والنسب واللغة فحسب، بل تتأصل -هذه العلاقات- بأواصر الدين والعقيدة أولاً، وفي القرنين الأخيرين تأكدت وتعززت هذه العلاقات بل ترسخت تلك الروابط منذ قيام الدولة السعودية الأولى؛ لذا نرى عالم صنعاء الأمير محمد بن إسماعيل المتوفي سنة 1182 يثني على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد كتب قصيدة تزيد على سبعين بيتاً منها:
 
سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نَجْدِ
 
وإن كان تسْليمي على البعد لا يُجدي
 
وذكر الإمام الشوكاني أنه في سنة 1215ه وصل من صاحب نجد عبدالعزيز بن سعود مجلدان لطيفان إلى المنصور بن علي المهدي حاكم صنعاء، كما قال في معرض حديثة عن هذه الزيارة "وصل في شوال سنة 1216ه إلى حضرة مولانا الإمام المنصور بالله حفظه الله كتاب من سلطان نجد عبدالعزيز بن سعود وهذا لفظه التام والتحية والإكرام تُهدى إلى سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم ينتهي إلى جناب الإمام ابن الإمام الشريف سعده الله بطاعته وسلمه من الآفات وحفظه من طوارق البليّات واستعمله بالباقيات الصالحات وبعد.. الخط الذي مع محمد بن محمسة وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وما فيه من مواصلة الدعوة والدرس والذي غيره كذلك وصل، وهذا واصلك بيد ابن محمسة إن شاء الله هدية وهي أجل الهدايا عندنا، فالمأمول فيك قبولها، وقبولها جزاؤها وهي مجموع فيه تفسير الشهادتين وفيه توحيد الله بالعبادة.. الخ".
 
وأورد الشوكاني بعد هذه الرسالة جوابها من صاحب صنعاء المنصور جاء فيها: "نُصحك الصحيح قبلناه وعلى كاهل السلامة حملنا، والدين النصيحةً"، وفي عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز في سنة 1222ه ذكر لطف الله حجاف في "درر نحور الحور العين" أنه قدم عالمان من قبل الإمام سعود بن عبدالعزيز هما عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم وساق نسبه إلى جده راشد والعالم الآخر عبدالله بن مبارك بن عبدالله بن حمد بن راشد بن بُشير وهناك رسائل عديدة متبادلة تحمل المحبة بينهما.
 
عهد المؤسس
 
في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن كان ثمة رسائل متبادلة بينه وبين الإمام "يحيى بن حميد الدين"، حيث ذكر "إبراهيم آل الشيخ" أنّ الأمير "تركي بن محمد بن تركي الماضي" قد أورد هذه الرسائل في مذكراته ومنها:
 
"من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الجلالة الأخ الملك الإمام يحيى بن حميد الدين ملك اليمن حفظه الله تعالى:
 
( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد فإنا نحمد الله سبحانه وتعالى إليكم.
 
ونسأله أن يكون جلال الأخ ومن يلوذ به في الآل والولد والأقربين بخير وعافية وأن تكون أحواله وصحته على ما نتمناه ويتمناه جلالتكم كما أننا نسأله أن يديم علينا وعليكم نعمته التي لا تحصى، وآلاءه التي لا تعد ولا تفنى وأن يوفقنا وإياكم إلى مراضاته...إلخ).
 
كما أورد رسالة من الإمام يحيى للملك عبدالعزيز جاء فيها:
 
"إنني أشكر جلالة الملك وأسأل الله لجلالته التوفيق على ما أبداه من المحبة الوفاء والإخلاص، وقد جاء في الحديث: "إن الأرواح جنود مجندة...إلخ".
 
وأضاف "وما أشار إليه جلالته بشأن الزبيري ومن معه من السفهاء، أما بعض أهل تعز فإنهم غضبوا على الولد أحمد حينما هدم قبة ابن علون الذي تسمعون به، فقد اعتقدوا فيه اعتقادات كفرية وأوقفوا عليه الأوقاف وشدوا الرحال... الخ"، مشيراً إلى أنّ المملكة دعمت إمام اليمن بكل ما أوتيت من قوة، ضد الثوار وذلك نظير الصداقة والجوار والرحم القائم بينهما، وعندما سقطت الحكومة استضافت المملكة المئات من آل حميد الدين وحلفائهم في أراضيها، وواستهم بالمال منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، لافتاً إلى أنّ اليمن والمملكة ماهم إلاّ كالجسد الواحد، فالدين واحد، والأصل واحد، والدم واحد، وكذا هي عاداتنا وتقاليدنا واحدة لا تتعارض، كما هي مصالحنا وروابطنا الثقافية والاجتماعية، وعليه فيسرنا ما يسرهم ويحزننا ما يحزنهم وكل منا مكمل للآخر، فالحب والتقدير متبادلان من قديم الأزل كوننا شعبين تربطهما روابط العقيدة واللغة والأخوة الصادقة، بل إننا من أكثر الشعوب العربية إدراكاً للمروءة، والنخوة، والشهامة، والحكمة، فاليمن هم أصل العرب، ومنبع الكرم والجود.
 
حلف مشترك
 
في سبعينيات القرن الهجري المنصرم وفي عهد الملك سعود بن عبدالعزيز وأمام الظروف والتحديات التي كانت وما زالت تحاك ضد أي تحالف واتفاق عربي أو إسلامي، سارع كل من الإمام أحمد بن حميد الدين والرئيس المصري جمال عبدالناصر والملك سعود بن عبدالعزيز للوقوف أمام تحديات المرحلة المتمثلة في الانقسامات العربية بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي، ما انبثق عنه اتفاق مشترك بين الأقطار العربية الثلاثة ففي العاشر والحادي عشر من شهر رمضان سنة 1375ه، الموافق العشرين والحادي والعشرين من شهر ابريل (نيسان) سنة 1956م اجتمع في المملكة العربية السعودية جلالة الإمام أحمد ملك المملكة المتوكلية اليمنية، والسيد الرئيس جمال عبدالناصر رئيس الحكومة المصرية، وجلالة الملك سعود الأول ملك المملكة العربية السعودية، وقد عقدت خلال هذين اليومين عدة اجتماعات، تم فيها بحث المسائل التي تهم الدول الثلاثة بوجه خاص، وتتصل بإقرار الأمن والسلام في العالم العربي بوجه عام.
 
ويذكر مركز البحوث والدراسات بمؤسسة الملك سعود أنه قد دارت المحادثات والمشاورات بين الرؤساء الثلاثة في جو من الود الخالص والتكاتف الكامل، وقد حرص الجميع على تمكين أواصر الإخاء والتعاون فيما بين دولهم مستهدفين في ذلك أماني الشعوب العربية في الحرية والكرامة والأمن والسلام، وقد أسفرت الاجتماعات عن عقد اتفاقية دفاع مشترك ثلاثية، وقعها الرؤساء الثلاثة ثم إنها أتاحت فرصة مواتية لتبادل الرأي في وضع الخطط العظيمة التي تكفل نمو الروابط الاقتصادية والثقافية والفنية بين الدول الثلاث وتوثيق عرى التعاون بينها في سبيل خير العروبة ورخائها.
 
ولقد علقت محطة إذاعة مكة المكرمة في الحادي عشر من شهر رمضان 1375ه - 21 ابريل 1956م، على توقيع الحلف الثلاثي بين المملكة العربية السعودية ومصر واليمن فقالت:
 
تم اليوم نصر جديد للعرب، ولقضية العرب، إذ وُقِعَ في جو ودي أخوي اتفاق ثلاثي جديد يستهدف جمع كلمة العرب، ورفع مستواهم، ودفع العدوان عن بلادهم وأراضيهم، ففي تمام الساعة الخامسة صباحاً اجتمع في القصر الملكي في جدة جلالة الملك سعود، وجلالة الإمام أحمد، وسيادة الرئيس جمال عبدالناصر تمهيداً لتوقيع الاتفاق المرموق.
 
التبادل التجاري
 
عرفت (عدن) بأنها بوابة التجارة للبلاد العربية، لاسيما في الجنوب العربي، كما عرفت مدينة جدة بمركزها التجاري وقبل ذلك بموقعها المجاور للمدينتين المقدستين (مكة المكرمة) و(المدينة المنورة)، والتي مثلت مع ميناء (عدن) وسواحل (مصر) تكاملاً اقتصادياً، حيث يتبادل السلع والعروض التجارية في الشرق والغرب، لاسيما بعد افتتاح قناة السويس عام، ناهيك عن النشاط الأبرز، حيث نقل حجاج بيت الله الحرام، ولا شك أنّ هذا التكامل التجاري الاقتصادي ساهم كغيرة من الأنشطة التجارية الحيوية في تماثل مجتمعي ديموغرافي في كل من الجنوب اليمني والسواحل الحجازية، حيث لا يزال هذان الإقليمان يشهدان حراكاً اقتصادياً وتبادلاً تجارياً لافتاً، ولا غرابة أن يبرز هذا الحراك الاستثماري أسر وعوائل تجارية تمتد من سواحل جدة، إلى سواحل عدن كما احتضنت المملكة في الرياض والدمام ومعظم مدنها الكبرى أبناءها من (حضرموت) و(صنعاء) وكافة المدن والأقاليم اليمنية الذين استقبلت بلادهم من جهتها عدداً من رجال الأعمال السعوديين المستثمرين علماً أن هذه الأنشطة -أبداً- لم تكن وليدة العقود المتأخرة، بل تحدث عنها معظم الرحالة العرب والمسلمين الذين جابوا مناطق الجزيرة العربية إبان العصور الإسلامية الوسيطة، والتي نقلوا لنا من خلال مدوناتهم صور التكامل الاقتصادي والتجاري بين بلاد (اليمن) و(الحجاز) وإقليمي (نجد) و(الأحساء)، فيما كانت قوافل التجارة تنطلق من (صنعاء اليمن) إلى (مكة المكرمة) ومنها إلى (الشام) في رحلتي الشتاء والصيف.

kingsaud55228935cb986013871786185.jpg

الخميس 13 جمادى الآخرة 1436 هـ - 2 أبريل 2015م - العدد 17083, صفحة رقم ( 22 )