(الرياض بين الماضي والحاضر)

      من مقال جون فليبي 

 (الرياض بين الماضي والحاضر)  


 
وأيا كان الامر فإن فيلبي يعد رائد الكتابات المفصلة عن مدينة الرياض والمتابع بشكل دقيق ومفصل مراحل تطورها ونموها منذ السنوات الاولى لعهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الذي اعاد للرياض مجدها وعزها، وإلى السنوات الاخيرة من عهد الملك سعود رحمه الله الذي شهدت الرياض في عهده دخولها عالم العصر الحديث ،ما المقالة الثالثة والاخيرة التي كتبها عبدالله فيلبى عن مدينة الرياض فهي مقالة شيقة نشرها في مجلة الشرق الاوسط المجلد الثالث عشر ربيع 1959م بعنوان (الرياض بين الحاضر والماضي).
وهي آخر مقالة او دراسة كتبها فيلبى عن هذه المدينة التي احبها، وقضى بها سنوات طويلة من حياته، شهدها وهي تخرج من اسوارها، وتتوسع في مساحتها، وتدخل اليها الوسائل العصرية، وتتبنى انماطا معمارية مختلفة غير ما ألفتها على مدى تاريخها, ويزحف البناء على حساب المزارع والبساتين لمواجهة النمو المتزايد في عدد سكانها، وتشهد تطوراً عمرانيا حديثا لاستيعاب المباني الحكومية الضخمة، وذلك بعد ان تطورت الادارة، وتحولت من ادارات تقليدية في شكلها وفي ادائها قبل استحداث مجلس الوزراء وتشكيل الوزارات الحديثة، ،نقلها الى العاصمة الرياض، ورغبة القيادة السياسية في ان تكون الرياض عاصمة عصرية بها كل مقومات المدينة الحديثة, ساعد على قيام كل هذا عوامل عدة: اولها عقلية الملك عبدالعزيز المتفتحة المتمثلة في رغبته ان يخرج عاصمة بلاده من العزلة التي عاشتها عقودا طويلة، ففي عهده تم ربطها بما حولها من المدن والعواصم بوسائل الاتصالات الحديثة مثل الهاتف ثم بناء مطار في عاصمة الصحراء لاول مرة، ثم توج انفتاحها على الخليج العربي بواسطة سكة حديد هل الاولى والوحيدة في المملكة بفضل عقلية هذه الشخصية الفذة الذي سبق زمانه في قوة التحدي والتغلب على الصعاب والطموح الذي لا حدود له، وهي صفات لا يملكها الا القادة المؤسسون الكبار، وعبدالعزيز هو طراز من (نسيج وحده) وضع الاسس وأنار بنور عقليته المتفتحة الطريق لمن خلفه من اولاده.
أما العامل الثاني فهو تدفق عوائد البترول في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية ومساهمتها في بناء العاصمة وتحديثها.
أما العامل الثالث فهو رغبة القيادة السعودية الجديدة بزعامة الملك سعود الذي كان لأسفاره الى كثير من بلدان العالم التأثير الكبير على تطلعاته بأن يرى عاصمة بلاده وقد بلغت مصاف العواصم الحديثة، فقاد مسيرة التطوير بشكل مذهل وتغيرت خارطة المدينة الحضارية وانتقل سكانها من حياة الجماعة Community  إلى حياة المجتمع Society ، واصبحت عاصمة تستقطب فئات سكانية مختلفة تنتمي الى خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة ايضا، وأصبحت عاصمة بكل مواصفات المدينة العصرية، فأسست بها مدينة طبية كبيرة هي مجمع مستشفى الشميسي ليحل محل المستوصف الوحيد القديم, وخرجت من إطار التعليم التقليدي الى عصر التعليم الجامعي إذ أسست بها جامعة الملك سعود عام 1377ه/ 1957م أول جامعة في المملكة وكلية الملك عبدالعزيز الحربية فأصبحت مدينة استقطاب يؤمها كل طالب علم او رزق او طالب استشفاء, وتوسع اطار نطاقها العمراني بشكل لا يضاهيه إلا ما شهدته مع بداية منتصف السبعينيات الميلادية.
ولكن رغم كل ما شهدته المدينة من توسع في العمران ومن تطور في البناء الحضاري وتنوع وتغير في النسيج الاجتماعي، فقد ظلت محافظة على الثوابت التي قامت عليها متمسكة بالقيم الاجتماعية المتوارثة والاخلاق العربية والاسلامية المتأصلة في نفوس سكانها.وحتى لو لم يعش ابن سعود ليشهد الازدهار الكامل لمشروعه فهو قد خلف على الأقل لمن يأتي بعده إرثاً يشتمل على مفتاح الأرض الواعدة.
وقد كان سعود نفسه مستعدا لذلك بصورة جيدة من خلال الأسفار الخارجية التي قام بها حديثا (إلى مصر والهند خلال الحرب، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب) الشيء الذي مكنه من استيعاب فرص تحقيق النمو وإمكانيته في بلد تأكدت قدرته حاليا على توفير السيولة الكافية لجعل الصحراء (تتفتح كالزهرة), وحتى هنا توقف الأنموذج الخاص بتحويل الصحراء عموما نتيجة لتحول اعجاب العالم بالتنمية اليهودية في فلسطين, لكن سعود بن عبدالعزيز سرعان ما أثبت أن الأمر ليس مجرد مشروع، بقدر ما هو في غاية البساطة متعلق بالمواد المالية, وكان يحظى بتذوق خاص للمباني ذات الطابع الأنيق والحدائق المنمقة، وكان لا يزال وليا للعهد عندما أشرف على أول تجربة تتعلق بتطوير مدينة الرياض وتحديثها, وكان يقع على بعد ثلاثة أميال غرب المدينة بئر وحديقة الناصرية البالغ مساحتها أربعة أفدنة، والتي كانت المنتجع المفضل للملك عبدالعزيز في جولاته خارج  المدينة أثناء فترة ما بعد الظهيرة.مزيد من الآبار العميقة في الجوار حيث كانت نتائجها مدهشة، وتمت زراعة أشجار الفاكهة وأشجار الزينة، المستوردة من أمريكا وغيرها من بلدان العالم، على أيدي خبراء البساتين الذين تم جلبهم من الهند وبخارى, وسرعان ما بدأ خبراء التشييد القادمون من الهند وسوريا في العمل على وضع القواعد الخرسانية الضخمة لقصر ملكي ضخم من طابقين, وفي خلال سنة أو سنتين كان ولي العهد يقوم فيه باستقبال ضيوف والده القادمين من شتى أطراف العالم وبقاعه, وكان معظمهم من بلدان يتناقض شظف العيش، الذي عانت منه بعد الحرب تماما مع الكرم الشخصي للصحراء العربية!
وسرعان ما تحولت حديقة البئر الصحراوية الصغيرة التي كانت مخصصة لزراعة البرسيم والقليل من أشجار النخيل بسرعة مذهلة إلى متنزه تبلغ مساحته مائة فدان من المروج الخضراء والأزهار اليانعة، والطرقات والممرات المشجرة، والأكواخ ذات الشجيرات المزهرة وبيوت زراعة البرتقال وبساتين الفاكهة والغابات المزروعة بأشجار الزينة، هذا بغض النظر عما تحويه من أحواض السباحة، وملاعب التنس وغيرها من النشاطات الترويحية, وكان يوجد بها أيضا، وبجوار القصر نفسه وحوله، مسجد ومدرسة أنيقة لأطفال الأسرة المالكة، بالإضافة إلى (استاد) لكرة القدم مجهز بمدرج للنظارة وكل ما يلزم.
وفي مرحلة لاحقة بعض الشيء تمت إضافة إحدى حدائق الحيوان إلى منتجعات حدائق القصر، لكي تستقبل بدورها أحد كبار الزوار القادمين إلى الرياض جوا، وقد كان هذا الزائر أسداً من أفريقيا!
لقد تناولت الناصرية بشيء من التفصيل، لأنها تمثل بلا شك الخطوة الأولى التي اتخذت قدما نحو تطوير مدينة الرياض وتحديثها, وقد أدى قيامها إلى ضرورة الشروع في عمل طريق يربطها بقصر المربع والمدينة من خلال أوتوستراد عريض من مسارين يفصله في الوسط خط من المساكب, ومنه يتفرع طريق جانبي آخر يؤدي إلى محطة السكة الحديد من أحد اتجاهاته، بينا يؤدي إلى المطار من الاتجاه الآخرالتي انتشرت في كل الاتجاهات حول المدينة القديمة، وعبرها وإلى خارجها باتجاه القصر الصيفي في البديعة، وفي الممر الرئيسي لوادي حنيفة، وإلى غيرها من الحدائق والقصور الأخرى الخاصة بالأمراء، والتي سرعان ما برزت فجأة على هذا النمط الذي شيد عليها قصر الناصرية, ولاحقاً بعض الشيء شمل البرنامج الطرق الإسفلتية الواسعة التي جعلت الآن من الرحلة إلى الدرعية والخرج شيئا ممتعاً، بدلا من المعاناة التي كانت عليها أيام الصحراء القديمة, وقد تم البدء حديثا في عمل الطرق التي سوف تقوم تلقائيا بربط الرياض بكل من مكة المكرمة والخليج العربي، بصرف النظر عن المراكز السكانية الوسيطة الواقعة على امتداد هذه الطرق, ولكن مشروع مد خط السكة الحديدية إلى مكة المكرمة، عن طريق محافظة القصيم، والمدينة المنورة وجدة كان هو الشيء الوحيد الذي واجه تباطؤاً في تنفيذه، في الوقت الذي ظلت فيه مشكلة إصلاح خط سكة حديد الحجاز بين المدينة ودمش ودون أدنى مبرر من المشكلات العالقة، بعد أن كانت تحظى بالاهتمام الفعلي لأكثر من ثلاثين عاما، وقد بدا أن الاتجاه يميل إلى تفضيل الطرق البرية على السكك الحديدية.إن كيفية معالجة الوسط التاريخي للمدينة القديمة تعد بلا شك أمرا يتطلب قدرا كبيرا من الاهتمام والعناية، إذ كان واضحا أن عدم ملاءمة شوارعها الضيقة والمتعرجة لحركة المرور تمثل مشكلة حقيقية, ولكن من الغريب حقا أن أول ما خضع لعملية التكسير وإعادة الإصلاح من قبل سعود كان هو الجامع الكبير الذي يمثل حجر الزاوية في التاريخ الوهابي والذي يعد كذلك ممثلا لعقلية الوهابيين، بسقفه المسطح ومناراته القصيرة، وهو الذي أسند إليه أبوه، بوصفه ممثلا للأجيال القادمة، مهمة تحديث العاصمة السعودية وتطويرها.
وقد شرع في البداية (بتقطيعه إلى أجزاء) كخطوة أولى نحو تحديثه, وقد تم هدم المسجد المشيد من الطين، وعدد كبير من المنازل المجاورة له وسويت بالأرض, وأقام في مكانها المسجد الجديد المشيد من الخرسانة، بمنارتيه الاثنتين العاليتين وصفوف أعمدته الجميلة, وسرعان ما تبع ذلك قصر الإمام تركي القديم الذي تم تغييره بمبنى ضخم ذي تصميم على الطراز الأجنبي، ويحتوي على المساكن ومجمع للمحاكم، ومكاتب لحاكم منطقة الرياض، وصالات عامة فسيحة لاستخدام الملك في المناسبات الخاصة بالاحتفالات الرسمية، التي تتقابل عند هذه النقطة, وتفرعت منها الشوارع الحديثة في كل الاتجاهات.
ا بالنسبة لصحة المجتمع المدني فقد كان يتم الإشراف عليها من خلال ثلاثة مستشفيات رئيسية، ومستشفى للتوليد، إضافة إلى العديد من المنشآت الصغيرة الأخرى, وبالنسبة لشباب المدينة فلم يكن لديهم أدنى شكوى فيما يتعلق بالمدارس بشقيها الديني والدنيوي، في الوقت الذي اكتمل فيه حديثا تشييد مدرسة داخلية جديدة بالقرب من قصر الناصرية، ومع أنه لم يتم تشغيلها بعد، لكن من المؤكد أنه عندما يتم ذلك فسوف تحتل مكانة مرموقة وسط أفضل الكليات في العالم من ناحية المرافق السكنية والتعليمية.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أن نذكر جامعة الملك سعود الجديدة التي سجلت بداية نموذجية ومعقولة في منطقة الرياض الجديدة خلال العام المنصرم، وكذلك متحف الناصرية الذي اكتملت مبانيه لكنه لم يتسلم بعد الأشياء التي يجب عرضها فيه، والتي تم وضعها مؤقتا في المتحف الموجود بمدينة جدة.
وقد لا يتسع المجال لأكثر من ذلك من مجرد الذكر فيما يتعلق بساحة البلدية الجديدة والمكتبة العامة في الرياض الجديدة، أو فيما يتعلق بميدان سباق الخيل بمدرجه الجديد، أو بالنسبة للعديد من ميادين كرة القدم وغيرها من التسهيلات والمرافق الترويحية، أو الحدائق الغناء التي يجد الناس فيها متنفسا للخروج من المباني الحديثة، والتي تم وضعها في العديد من الأماكن والنقاط المختارة, وكل ذلك يوضح أن هناك اهتماما بالغا من قبل السلطات المحلية، وتحت إشراف الملك نفسه وتوجيهه،فيما يتعلق بتلبية احتياجات المدينة الحديثة ومتطلباتها البالغ عدد سكانها حوالي 300,000 نسمة، والتي تغطي مساحة تبلغ حوالي مائة كيلومتر مربع، وتمتد في كل الاتجاهات بدءا من (قلب الجزيرة العربية) السابق والبالغ مائة فدان.

وتشير الإحصاءات التقليدية إلى أن الاستهلاك اليومي من المياه في الرياض الجديدة لا يمكن أن يقل عن عشرة ملايين جالون يوميا.
نخلص من هذا إلى أنه مع أن الملك سعود نفسه هو الذي مهد الطريق إلى تحديث عاصمته وتطويرها عندما قام بتشييد قصره الصيفي ومنتجعات الناصرية لكن من المحتمل أنه لم يكن يعد تلك المحاولة أكثر من كونها تجربة للتمهيد والتحضير لأشياء أعظم من ذلك, وعلى أية حال لم تمض سنوات كثيرة على ذلك حتى تشجع وأمر بإزالة البنيان بأكمله لإفساح المجال لتشييد قصر جديد يكون أكثر تمشيا مع مكانة المملكة التي انشأت لنفسها مكانة مرموقة في المحافل الدولية.
يجب الاعتراف بأن أجمل مجموعة من المباني في الرياض الجديدة هي مجمع قصر الناصرية الجديد، كما يشاهد من مكان مرتفع يقع في الطرف الشرقي من حديقته ذات الأشجار الطويلة, وقد كانت المادة المستعملة دائما هي الخرسانة المائلة إلى اللون الرمادي، والتي كانت تنسجم بسهولة مع خضرة الحدائق، وتعطي انطباعا بأنها نوع من الحجر الرملي, وفي الوسط كانت تقع كتلة القباب المسطحة التي تشكل قصر إقامة الملك الذي تحف به الحدائق الغناء، وتزينه البحيرات الاصطناعية والأشجار المزهرة, وعند واجهته اليسرى يقع الديوان الملكي (الذي يضم مكاتب السكرتارية وصالة المقابلات، وصالة الطعام)، وكذلك الجامع الكبير والمتحف، بينما تقع في الواجهة اليمنى قصور نساء البلاط.
وإنه ليحق القول إن الملك سعود حاز بكل امانة وجدارة لقب (أستاذ العمران)، وما الرياض التي نراها اليوم، وبكل تأكيد، إلا من معالم إنجازاته، حتى لو كان ما لا يزيد على نصف دستة من الأوروبيين قد تشرفوا برؤية المدينة المسورة القديمة الخالدة الذكرى قبل أن أراها، فإن عشرات الآلاف قد حظوا بكل سرور بقياس مدى التطور الذي حدث منذ تلك الأيام الغابرة, وبكل لطف، لقد تغير النظام القديم، وأفسح المجال للجديد، وإن الله يوفي وعده بعدة وسائل، خشية أن يؤدي تقليد جيد واحد إلى إفساد العالم

هذه هامة يسمي الملك سعود (أستاذ العمران )أعود إلى ما زوّدنا به فيلبي - عليه رحمة الله - من معلومة تاريخية تصب في الموضوع الذي أتناوله الآن. فقد ورد في كتابه حاج في الجزيرة العربية في الفصل الذي خصصه للحديث عن مدينة الرياض تحت عنوان: عروس الصحراء. وقد سبق هذا البحث عن مدينة الرياض ببحث مفصل عند زيارته الأولى للمدينة في عام 1917م، وختم حياته ببحث آخر مفصل بعنوان: الرياض بين الماضي والحاضر نشره عام 1379ه -1959م قبل وفاته بسنة واحدة، وكان لي شرف جمع هذه البحوث الثلاثة وترجمتها وإعدادها للنشر في كتاب بعنوان الرياض كما شاهدها فيلبي سيرى النور قريباً بحول الله - (11)