* فجر عالمي وإقليمي جديد
* حملت نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 سلسلة تغيرات وتداعيات موازية في منطقة الشرق الأوسط، كولادة جامعة الدول العربية، وجلاء القوات الغربية المنتدبة من عدد من المناطق العربية وتأسيس إسرائيل، وبداية مسلسل الانقلابات العسكرية التغييرية. أما على المسرح الدولي، فقد اندلعت «الحرب الباردة» بين العملاقين الجديدين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أخذ نفوذ القوتين الاستعماريتين الأوروبيتين القديمتين بريطانيا وفرنسا يتراجع في مختلف أنحاء العالم. وقد انعكست معادلات «الحرب الباردة» إقليمياً بإنشاء «حزام عسكري دفاعي» مناوئ للشيوعية تجسد بـ«حلف بغداد» عام 1955.
وعليه، كان عقد الخمسينات، أمام خلفية قيام إسرائيل، عقد الصراع الاستقطابي الحاد بين محور «حلف بغداد» ـ الذي ضم العراق (حتى 1958) والأردن وإيران وباكستان مع تأييد من لبنان (حتى 1958)، ومحور القاهرة ـ الرياض ـ دمشق. وسجل المحور الثاني أرجحية كبرى تمثلت بانتهاء الحكم الداعم لـ«حلف بغداد» في العراق ولبنان، وصمود مصر في وجه «العدوان الثلاثي» (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي).
* مرحلة ما بعد الملك عبد العزيز
* في هذه الأثناء، في المملكة العربية السعودية، اتسمت مرحلة حكم الملك سعود بن عبد العزيز بلعب أخيه ولي العهد الأمير فيصل (الملك فيصل في ما بعد) دوراً سياسياً بارزاً على الصعيدين الداخلي والخارجي، كان قد هيأه له أبوه، وهو ما زال في سن مبكرة. وكانت الدوائر الغربية مع تنامي الأهمية الاستراتيجية النفط المنطقة، لا سيما النفط السعودي، أخذت تتابع باهتمام بالغ تطور الشأن السياسي في السعودية، وترصد ديناميكيات المحافظة والتغيير داخل مؤسسة الحكم السعودية، ومواقف الأخوين الملك سعود وولي العهد فيصل. وبما يخص بريطانيا، بالذات، كانت هناك قضية خليجية صغيرة لكنها مقلقة، هي ما عرف بـ«مسألة واحة البريمي»، التي وتّرت العلاقات لبعض الوقت بين الرياض ولندن. وقد اعتبرت بريطانيا، التي كانت القوة المهيمنة يومذاك على منطقة الخليج، بما في ذلك مشيخات الساحل المتهادن (أو المتصالح) ـ أي دولة الإمارات العربية المتحدة ـ وسلطنة عمان، أن السعودية احتلت أراضي في الواحة المذكورة التي تلتقي عندها أراضي المملكة وسلطنة عمان ودولة الإمارات. وظل موضوع البريمي لبعض الوقت موضوعاً شائكاً خلّف آثاراً سلبية على العلاقات بين لندن والرياض. غياب الملك عبد العزيز عن الساحة التي هيمن عليها نحو نصف قرن فتح صفحة جديدة سعودياً وإقليمياً. وبديهي أن شخصيتي الأخوين سعود وفيصل، اللذين احتلا الموقعين الأول والثاني في هرم السلطة في المملكة، كانتا مختلفتين سواء من حيث الطبع والمزاج أو الاهتمامات. ولكن لا تتوفر البتة أي مؤشرات لوجود «خلاف سياسي» بينهما في السنوات الأولى من فترة حكم الملك سعود. وليس ثمة ما يؤكد وجود أي تناقض من هذا القبيل في الوثائق الدبلوماسية البريطانية بين 1955 و1957، بعكس ما لمح إليه محمد حسنين هيكل في كتابه عن السويس M. H. Heikal, Cutting the Lion"s Tail: Suez Through Egyptian Eyes عن أن العلاقة بين الأخوين كانت تبدو أحياناً على غير حقيقتها، ذلك أنه بحضور الزوار كان فيصل يجلس في مرتبة متدنية عن أخيه متابعاً كل كلمة يقولها بانتظار تلبية أوامره، في حين أن الواقع ـ حسب هيكل ـ كان غير ذلك وأن هذا التصرف كان مظهرياً مخالفاً لواقع الحال. من ناحية ثانية، لا يشير المؤرخ والصحافي البريطاني المرموق كيث كايل في كتابه القيّم عن أزمة السويس في تلك الفترة Keith Kyle, Suez: Britain"s End of Empire in the Middle East وهو كتاب يغطي طيفاً واسعاً من القضايا التي مسّت السياسة السعودية خلال عقد الخمسينات من القرن الفائت بما فيها نزاع البريمي، إلى أي اختلاف جوهري في وجهات النظر السياسية بين الأخوين سعود وفيصل عامي 1955 و1956. وقد ركّز كايل كثيراً على الحرص الأميركي يومذاك على تهيئة كل الظروف، لكي يكون الملك سعود قوة نافذة موازية في وجه نفوذ الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفي هذا المجال كان المناخ الإقليمي وموضوع توفير مقومات النجاح لـ«حلف بغداد» في طليعة اهتمامات الدبلوماسية الأميركية بقيادة وزير الخارجية جون فوستر دالس، بمعزل عن حساسيات لندن السلبية إزاء الرياض في موضوع البريمي. أما الإشارة الوحيدة إلى احتمال «استغلال الاختلاف في وجهات النظر» إذا ما وجد، فمرّت بشكل عابر عند قول كايل إلى أن الاستخبارات البريطانية الخارجية (إم.آي.6) كانت مهتمة باستغلال اختلاف وجهات النظر «داخل الأسرة المالكة» في المملكة العربية السعودية، لتسريع سقوط الملك سعود. ولكن حتى هنا لا كلام مباشراً عن الأمير (لاحقاً) الملك فيصل شخصياً. بل على العكس، يتحدث كايل تلميحاً في مكان آخر من كتابه إلى تضامن القيادة السعودية ـ وبالذات الأخوين الملك وولي العهد ـ في هذه المرحلة، وذلك عند تطرّقه إلى زيارة عبد الناصر للمملكة العربية السعودية في أواخر سبتمبر (أيلول) 1956. إذ يقول ـ مسنداً كلامه إلى هيكل ـ إن هدف الرئيس المصري كان «تمتين تحالفه الغريب والمرتبك مع الملك سعود وولي العهد فيصل اللذين عبّرا أمامه عن قلقهما من تشجيعه الظاهر لتحركات الغوغاء». وهذا كلام يوحي بأن للأخوين حينذاك موقفاً موحداً من وضع المنطقة.
* قراءة لندن الضيقة لموقف الرياض
* من جهة ثانية، كانت لندن ـ وفق التقارير البريطانية الرسمية في هذه الفترة حتى على أعلى المستويات ـ تنظر إلى الموقف السعودي من ثقب إبرة مصالحها الإقليمية الضيقة جداً، وبدت عاجزة تماماً عن إدراك تركيبة الحكم السعودي وخلفيته الدينية. وحتى بعض أبرز ساستها واكثرهم حنكة انجرفوا في اتهام الرياض بـ«التعاون مع الشيوعيين» ضد المصالح الغربية (!). وهذا أمر مستغرب جداً، في ظل الفهم البريطاني القديم والعميق المفترض لطبيعة الدولة السعودية وبيئتها وخبرة لندن الطويلة في منطقتي الخليج وشرق المتوسط.
ففي تقرير «سري للغاية» مرفوع من وزير الخارجية (يومذاك) هارولد ماكميلان إلى رئيس الحكومة انتوني إيدن حول مؤتمر «حلف بغداد»، مؤرخ 25 نوفمبر 1955، حمل الوزير البريطاني على السياسة السعودية، بقوله «إن النقطة الجديدة التي برزت بوضوح شديد من كل ما سمعته في بغداد، ثم في بيروت، هي أن الوضع في الشرق الأوسط يتعرّض للنسف والإفساد بواسطة المال السعودي، وليس من قبيل المبالغة القول إن الأموال الأميركية (آرامكو) تنفق على نطاق واسع (نحو 100 مليون دولار سنوياً) للترويج للشيوعية في الشرق الأوسط. لقد تقدم نوري (السعيد) بمناشدة خاصة إلى المؤتمر (موجهة بالذات إلى المندوب الأميركي المراقب) لإيجاد الوسائل الكفيلة بوقف مدفوعات آرامكو للسعوديين، ولو لمدة ستة أشهر. وهو يعتقد أنه إذا تيسّر ذلك ستتغير الأوضاع كافة في كل من سورية ولبنان والأردن، وحتى في مصر. وأن كل الأهداف التي يبدو تحقيقها اليوم متعذراً (بما فيها التسوية الفلسطينية) سيصبح تحقيقها ممكناً.
* عام 1956 المفصلي
* كان عام 1956، بكل المقاييس عاماً مفصلياً في المشرق العربي، وتوّج بما عرف بـ«العدوان الثلاثي» على مصر. وكان التلاشي الفعلي ـ ولو تدريجياً ـ للنفوذين البريطاني والفرنسي لصالح نفوذي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أهم النتائج الحقيقية لفشل الهجوم، الذي كان صاعقه المفجر تأميم عبد الناصر شركة قناة السويس (الأنجلو فرنسية)، بالإضافة إلى دعم مصر «الناصرية» للثورة الجزائرية ضد الوجود الاستعماري الفرنسي، وتخوف لندن وتل أبيب من تضخم نفوذ عبد الناصر في ظل فتحه باب التعاون مع السوفيات ودول «المعسكر الشرقي». في هذه الفترة كانت لندن قلقة جداً من مصر عبد الناصر، ومتضايقة جداً مما اعتبرته تحالفاً مصرياً ـ سعودياً ضد «المحور الهاشمي» الذي كانت تحتضنه وترعاه. وتشير التقارير والرسائل البريطانية خلال هذه الفترة بوضوح إلى هذا القلق وهذا الضيق. ولكن أياً منها لا يتحدث عن وجود انقسام داخلي داخل الأسرة السعودية يساعد استغلاله على إضعاف موقف الملك سعود، أو ابتزازه للتخلي عن تفاهمه مع مصر، مع أنه كانت هناك ـ كما سبقت الإشارة ـ رغبة في ذلك لو تيسّر الظروف. ففي أواخر عام 1955، وتحديداً يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، كتب الجنرال جون باغوت غلوب (غلوب باشا) قائد «الجيش العربي» (من 1939 إلى 1956) مذكرة إلى الخارجية البريطانية، تقع في 7 صفحات مطبوعة تحت ختم «مكتوم جداً» (أي سرية للغاية)، يشرح فيها الأوضاع الإقليمية. وهنا أيضاً، رغم طول المذكرة والتحليل المفصّل للمعطيات المتكونة لديه لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى الوضع الداخلي لا في مصر ولا في السعودية، اللتين اعتبرهما في المعسكر المعادي.
فقد استهلّ غلوب المذكرة بالقول إن: «دخول روسيا (أي الاتحاد السوفياتي) إلى الشرق الأوسط أحدث ثورة في كل شيء. وحتى إذا افترضنا أن الدول العربية لن تتحالف مع روسيا، فالثورة في أي حال باتت مكتملة. حتى الآن تمتعت القوى الغربية باحتكار (للنفوذ)، فإذا ما احتاجت أي دول عربية إلى شيء ما تذهب مباشرة للاستجداء من القوى الغربية، ومهما تحايلت هذه الدول أو شكت لم يكن أمامها في نهاية المطاف غير استرضاء القوى الغربية التي تعتمد عليها في بقائها. ولكن بروز روسيا على المسرح (الإقليمي) غيّر المشهد بالكامل. وبالتالي، ما عاد الساخطون أو الطامعون أو الحاقدون مضطرين لكبت مشاعرهم السلبية (تجاه الغرب) مطلقاً، فها هي روسيا تقف بجانبهم وتحميهم من ردّات الفعل الغربية. الأردن هو المعقل الرئيس لبريطانيا في الشرق الأوسط، ولذا فالخطوة الأولى (لأعدائها) طرد البريطانيين من الأردن. مصر والمملكة العربية السعودية، متفاهمتان على إنجاز ذلك الهدف معاً ولقد استخدمتا عدة وسائل على الفور. إن الجزء الأبرز مما يحدث اليوم، هو أن بريطانيا فقدت زمام المبادرة. فمصر والمملكة العربية السعودية واليمن في حالة هجوم دائم، وكل همنا ولو متأخرين الذود عن أنفسنا برد الضربات. وهكذا فإن مصر والمملكة العربية السعودية واليمن، تدعمهم روسيا، ماضون قدماً في محولاتهم لطرد بريطانيا من المنطقة.
أنا لا أدري ما إذا كان العرب أو متى سيصبحون شيوعيين، ولكن عندما يعقد جمال عبد الناصر مشاورات مع السفير الروسي لا يكون في وسعي تصديق أنهما لا يناقشان الوسائل الكفيلة بإخراج بريطانيا والولايات المتحدة من الشرق الأوسط. اليمن تريد إخراجهم (أي إخراج البريطانيين) من عدن، والمملكة العربية السعودية تريد الساحل المتهادن (الإمارات العربية المتحدة اليوم)، ومصر تريد الهيمنة الفردية المطلقة على الأردن ولبنان. وحتماً يطمئنهم السفير الروسي إلى الدعم الكامل من القوة العسكرية الأعظم في العالم».
إلى أن يصل إلى القول في سياق التحذير من المستقبل إذا خسرت بريطانيا موقعها في الأردن «عندما يصبح من المحتمل جداً أنهيار الأردن نفسه، وقد تتقدم إسرائيل لاحتلال كل الأرض حتى نهر الأردن، وتستولي سورية والمملكة العربية السعودية على شرق الأردن».
ويوم 20 مايو (أيار) 1956 أعدّت السفارة البريطانية في جدة تقريراً مستفيضاً عن الملك سعود بن عبد العزيز موجهاً إلى وزير الخارجية سلوين لويد، وجاء في التقرير الموقع باسم ر. و. باركس ما يلي:
«بعد انتظاري لمدة ستة أشهر للحصول على مناسبة للتعرف على الملك سعود، كان من الطبيعي أن أقارب لقاءنا الأول باهتمام، ويشرّفني اليوم تسجيل انطباعاتي الأولية. إن صور الملك الفوتوغرافية تظهره أكبر سناً مما هو عليه. لقد لاحظت أنه في صحة ممتازة باستثناء ضعف بصره، وبدا لي مرتاحاً وراضياً. في اعتقادي أن الملك سعود متمكن من بناء قناعاته الخاصة التي تتأثر بين الفينة والفينة بمشورة مستشارين أجانب متقدمين في السن ذوي مصالح خاصة، يبدو حتى عبد الرحمن عزام (باشا) بينهم شاباً. إن هؤلاء المستشارين ذوو نفوذ طبعاً، لكن عليهم التصرف بحذر وإسماع الملك ما يود سماعه».
ومما يقوله إن الملك سعود كان يردّد أنه لم يخلق نزاع البريمي بل ورثه. ثم يشير للمرة الأولى إلى الأمير (الملك) فيصل في معرض الخطوات التي ينصح باعتمادها في إطار التعامل مع الملك سعود. فيقول إن على بريطانيا تحاشي إعطائه أي انطباع بالضعف قولاً وعملاً، وينبغي تجنب وصف تراجعاتها بأنها «هزائم دبلوماسية» وأنه لا مجال أبداً لتقديم تنازلات حدودية مع المملكة، ويتابع أنه إذا استطاع إنجاز جلسة مباحثاته المقبلة مع الأمير (الملك) فيصل فسيكون من الأهمية بمكان طرح ظلاماتنا بحزم وبأقصى قدر من التفاصيل. كذلك في سياق الكلام عن «حلف بغداد» ينصح التقرير بإعطاء السعوديين انطباعاً بقوة «الحلف» ووحدة أعضائه، ويشير إلى أن السعوديين هم الأشرس في مناوأته، ولكن كلما ازداد «الحلف» قوة، سيزيد احترام السعوديين له، متابعاً أن الأمير (الملك) فيصل يهاجمه امام الزملاء من الدول الأعضاء في «الحلف» قائلاً: «هل رأيتم، إنكم لن تخرجوا منه بشيء».
وحتى عندما يصل التقرير لبحث ضرورة اتخاذ إجراءات لإبعاد المملكة عن مصر، وهنا يشير باركس إلى سماعه عدة تقارير تفيد بوجود قلق عند السعوديين إزاء التحالف مع مصر ثورية التوجه، فإنه لا يتكلم البتة عن وجود اختلاف في تقييم أفراد الأسرة السعودية لهذه الحالة. بل على العكس، الواضح من مضمون التقرير، ولا سيما عن «حلف بغداد»، أن موقف فيصل متطابق مع موقف أخيه.
من جهة ثانية، كانت قلة الارتياح البريطانية كبيرة لدور مستشاري الملك سعود. وهذه نقطة أثارها وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد مع رئيس الوزراء انتوني إيدن. ففي مذكرة سرية مرفوعة إلى إيدن ومؤرخة بيوم 22 حزيران (يونيو) 1956، يقول لويد إنه اطلع على ملاحظات رئيس الوزراء على تقرير باركس واستفساره حول ما أنسب الخيارات لفصل الملك سعود عن مستشاريه. ومما كتبه لويد أنه «في ما يتعلق بالمستشارين العرب، دأبنا منذ بعض الوقت على محاولة إقناع الملك بأن المشورة التي يتلقاها منهم سيئة، وإن خلافنا ليس معه شخصياً بل مع أولئك الذين ينصحونه ويشيرون عليه. ولقد طلبنا من الولايات المتحدة اتباع نفس الخط، كذلك رتّبنا قدر المستطاع مساهمة شخصيات مسلمة صديقة ورفيعة المستوى من دول أخرى في الحوار مع الملك في الاتجاه نفسه، منبّهين إلى أن سياسته الراهنة متطابقة مع سياسة الشيوعيين، وهي تنطوي في نهاية الأمر على تهديد كبير لشخصه وأسرته». والمثير في هذه الرسالة أيضاً أن لندن تحمّل مسؤولية مناواة الرياض لمواقفها إلى المستشارين، وما عادت تثير مسألة «استغلال» خلافات داخل الأسرة الحاكمة من الواضح جداً أنها لم تلمس وجودها في هذه الفترة.
وبتاريخ 27 أغسطس (آب) 1956 بعث إيدن برسالة «سرية للغاية» إلى الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور تتضمن انطباعاته عن «مؤتمر لندن حول قناة السويس» (الذي افتتح يوم 16 من الشهر) وعما يراه إيدن مخاطر العلاقات المصرية ـ السوفياتية الهادفة إلى تصفية النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط. ومع أن الرسالة شملت القول إن السوفيات في إعلانهم رغبتهم في تحقيق وحدة العرب في آسيا وإفريقيا وإزالة القواعد الأجنبية والاستغلال، «يستهدفون بوضوح قاعدتي هويلس فيلد (في ليبيا) والحبانية (في العراق) إلى جانب إمدادات نفط الشرق الأوسط، لم تشر الرسالة أبداً إلى المملكة العربية السعودية أو قيادتها أو سياساتها الإقليمية مع أن الرسالة موجهة إلى رئيس الولايات المتحدة ذات المصالح النفطية الكبرى في المملكة.
وفي التاريخ نفسه وجهت رسالة سرية من المستر باركس في السفارة البريطانية في جدة إلى وزارة الخارجية حول موقف الملك سعود من أزمة السويس. وفيها إشارة إلى ما تجمع لدى القائم بالأعمال الألماني (الغربي) في جدة عبر مصادره السعودية عن أن فكرة الملك إزاء تسوية الأزمة تقوم على الأسس التالية:
الاعتراف بالتأميم الذي أعلنه عبد الناصر.
دفع التعويضات المناسبة لمساهمين مع إيجاد شكل من أشكال الإشراف الدولي (من دون توضيح) لضمان حرية الملاحة.
إنسحاب التعزيزات العسكرية والبحرية البريطانية والفرنسية. وقد أبلغ الملك سعود الرئيس ايزنهاور بقلقه البالغ من تسبب الأزمة بحرب عالمية، مشدداً على الرغبة في تسوية سلمية. وأردف باركس أن هذه المعلومات متطابقة تقريباً مع ما سمعه من دبلوماسي أميركي عاد من الرياض يوم 25 أغسطس ـ باستثناء ما ابلغه الملك للرئيس أيزنهاور ـ، وأن الملك سعود كان منذ البداية متحفظاً عن مقترحات وزير الخارجية الأميركي دالس في هذا الصدد مع أنه أعرب في المقابل عن «قلقه الشديد» للتبعات المحتملة لما أقدم عليه عبد الناصر (أي التأميم) وللعقوبات والتحضيرات القتالية الغربية. كذلك يرى الملك سعود أنه ما لم تحل الأزمة سلمياً فإن الشيوعيين سيكونون الرابح الأكبر. وهنا في إشارة إلى الأمير (الملك) فيصل يورد باركس أنه في خضم البحث، وفي موقف متوافق مع موقف الملك، قال فيصل إن ما يقترحه دالس أقرب ما يكون إلى «حل مفروض فرضاً». وبطبيعة الحال، هنا اقرّ باركس بأن الملك سعود كان متخوفاً من أن يستفيد «الشيوعيون» من الحالة الراهنة. ويظهر ارتباك قراءة لندن الدبلوماسية للموقف الرسمي السعودي، لاحقاً عام 1958 من تقرير مؤرخ بيوم 2 سبتمبر (أيلول) 1958 موجه من السفارة البريطانية في العاصمة اللبنانية بيروت إلى قسم الشرق في وزارة الخارجية البريطانية يفيد بأنه «وبالرغم من تعاطف الأمير (الملك) فيصل المكشوف مع الناصرية، فإنه سيبقي المملكة بعيدة عن أي ارتباط بالجمهورية العربية المتحدة».
* خلاصة
* مما تقدّم، يتأكد كم كانت فترة منتصف الخمسينات من القرن الماضي منعطفاً خطيراً في تاريخ الشرق الأوسط. ويتضّح أن القراءة القاصرة للمعطيات والحقائق السياسية عند قوى «الاستعمار التقليدي» القديم أسهمت بقوة في تغيير شكل معادلات الصراع الدولي لصالح العملاقين الأميركي والسوفياتي. وأيضاً يتبيّن كيف أن القراءة العربية كانت في بعض الأحيان ـ وما زالت ـ مغلوطة للعديد من المواقف الدولية. وبالتالي، نتج عنها قناعات وحسابات كان لا بد أن تأتي مغلوطة.
إن الكثير مما تعاني منه المنطقة العربية اليوم من حصاد تلك القناعات والحسابات. ومن دون مراجعة منهجية وموضوعية ملتزمة، لا يبدو في الأفق ما يبشر بعهد يُفهم فيه التاريخ من زاوية «السببيّة» التحليلية.