بقلم : الشيخ أحمد حسن الباقوري
وزير الأوقاف المصرية
إن في أيدي العرب قوى قوية ، قادرة على أن تجمعهم وتهديهم وتكفل لهم النجاح ، بل إنها لقادرة على أن تكلل لهم السيادة وعلو السلطان ، لو أنهم أحسنوا توجيهها ، وحذقوا استخدامها ، وعرفوا كيف يضعون الحجة في موضع الحجة والسيف في موضع السيف ، والتقليد في مكان التقليد والاعتداد بالنفس في مكان الاعتداد بالنفس ، ثم لو أنهم أيقظوا الرأي ، وأناموا الهوى ، واحتقروا الأثرة وكرموا الإيثار ، وأخذوا الأمور بالأناة والصبر وشدة التحديق في الأفق البعيد .. إذن لاستيقظ لهم من تاريخهم الماجد ولغتهم الجامعة ودينهم المتين ، ما يجدد شبابهم ، ويضع في أيديهم القوة التي تمنع ، والأمل الذي يدفع والطريق الذي يفضي بهم آخر الأمر إلى الحرية والكرامة والمجد.
وجلالة الملك سعود من أولئك الذين يناط بهم الأمل ويعلق عليهم الرجاء ، ولقد رأيته وهو ولي للعهد في حياة والده العظيم ، فرأيت فيه رجلاً يشرق في وجهه النبيل وقار العروبة ويستقر في قلبه العظيم جلال الإيمان ، وتطوف في مجلسه ومن حول مجلسه قلوب الألوف من حجاج بيت الله الحرام وافدين من مختلف جوانب الأرض وهم جميعاً يحبونه، حب تقدير لا حب منعة ، ويهابونه هيبة إجلال لا هيبة حكم ويثقون فيه ثقة مستبصر لا ثقة مخدوع ،ويحرصون عليه حرص مقتنع لا حرص مضطر إليه ، وقد أدركت يومئذ أن هذه المعاني في جلالته ، أن كانت عصمة للدولة وأمناً للأمة ، فإنها كذلك مفزع للعروبة ، ومتطلع للإسلام ، كما أدركت إن جلالته بهذه المعاني الجليلة فيه هو خير خلف لخير سلف وأعظم وارث لا عظم مورث.
ويوم إن كنت في الأرض المقدسة أميراً للحج في العام الفائت ، رأيتني ألا حظ بعض تصرفات لجلالته واستدل بها على فطرة في الرجل سليمة وطبيعة فيه مستقيمة كما يستدل الظامئ المجهود بتحويم الطير في أجواء الصحارى على نبع عذب كريم ..
قلت لجلالته ذات يوم ، وكان يومئذ ولياً للعهد ، إن هذا التدافع الشديد بين الذاهبين والآيبين من الحجاج ، وهم يسعون بين الصفا والمروة ، يشغلهم التفكير فيه عن التزام الوقار الواجب ، وتمثل المعاني اللائقة بهذا النوع من العبادة ، ورجوت أن تفكر الحكومة في صنع حاجز يجعل الطريق طريقين ، أحدهما للذهاب والآخر للإياب ، حتى يكون ذلك معيناً على تخفيف الزحام وداعياً إلى التزام الوقار.
وفي اليوم الثاني ذهبت لأسعى مع الساعين بين الصفا والمروة ، وإذا العمال على اشد ما يكونون من الجد والسرعة ، يعملون على إقامة هذا الحاجز ، حتى فرغوا منه في ساعات قليلة حاجزاً مؤقتاً ريثما يتم تنفيذ المشروع الجليل الذي كان موضع عناية الملك سعود منذ كان ولياً للعهد ، والذي كان يستهدف به أن يكون المسعى كله جزءاً من المسجد الحرام.
والعبرة في هذا أ الرجل حريص على كل ما يقتنع بأن فيه نفعاً للناس وان جلائل الأمور لا تشغله عن دقائقها ، وأن العقل المستوعب لكل الأحوال ، والعناية الكاملة بكل الأمور ، في حدود طاقة البشر ، مما يعين على توفير الحكم ويفضي إلى تحقيق الصالح العام.
وأذكر أن أحد النزلاء في المدينة النبوية أبرق إليه يشكو ظلماً وقع عليه من حاكم المدينة ويقول هذا الشاكي أن الحاكم أهانه بغير حق ، واعتدى عليه بغير برهان ، وكان جواب الملك سعود سريعاً حاسماً ، مؤكداً أن الناس في الدولة سواء ، وأن سلطان القانون ينال اللائذ بالقصور ، كما ينال الثاوي في الأكواخ وان هذا الشاكي إذا كان صادقاً ، فالقصاص حق ، لامعدى عنه ولا شك فيه ، ثم استبان بعد ذلك أن هذا الشاكي كان كاذباً وان أحداً لم يعتد عليه ، لأن أحداً في الدولة العربية السعودية لا يستطيع أن يعتدي على أحد من غير حق ، ولم يسع الشاكي بعد ذلك إلا أن يجمع متاعه ويهرب حتى لا يتعرض لسخط القضاء العادل الذي لا يجامل الحاكم الظالم ، ولا يرحم المحكوم الكذاب.
والعبرة في هذا أن العدالة ليست كلمة يسوقها صاحب السلطان إلى الناس يتملق بها عواطفهم ويثير خيالاتهم ، فان هم ظلموا بعض أعوانه باختلاق التهم وإشاعة الأكاذيب تركوا لشأنهم ولم يحاسبوا على كذبهم واختلاقهم ، وإنما العدالة الحق أن يكون صاحب السلطان ميزاناً فيما بينه وبين الناس ، وفيما بين الناس بعضهم مع بعض ، وفيما بين الناس وبين القائمين عليهم ، فان رأى حيفاً منعه ، وان استشعر ظلماً دفعه مهما كانت منزلة الظالم ومهما كانت منزلة المظلوم ، وإلا فإن صاحب السلطان الذي يسرف في محاسبة أعوانه ثقة بحبهم له ، ويسرف في مجاملة البعيدين عنه تألفاً وتحبباً إليهم إنما يجانب الحزم الذي هو دعامة الملك وحياطة السلطان.
وقديماً سئل أحد الأركان الذين كانت تقوم عليهم إحدى الدول التي انهارت وزالت عن السبب الرئيسي الذي أودى بدولته واتى على كيانها ، فقال قولة حق لا يعرف الباطل سبيلاً إليها" كنا نبعد أصدقاءنا ثقة بهم ، وندني أعداءنا تآلفاً لهم ، فلا نحن احتفظنا صداقة الأصدقاء ، ولا أدركنا مصافاة الأعداء" .
ولذلك كان الملك سعود عادلاً بالمعنى الصادق لهذه الكلمة حين قرر رداً على برقية الشاكي انه لا يجامل الحاكم إذا ظلم ولا يرحم المحكوم إذا كذب ، ولم يكن جلالته عادلاً على هذا النحو الصادق إلا أنه فهم العدل فهماً صحيحا وطبقه تطبيقاً صحيحاً كذلك ، ولهذين الأمرين علمه الصحيح بمعنى العدالة وحرصه الشديد على تطبيقها في شعبه بين الحاكم والمحكوم ، رأيتني وأنا أعود من الجزيرة العربية إلى مصر العزيزة بعد أداء فريضة الحج رضي النفس ، شديد الطمأنينة ، عظيم الثقة في مستقبل الشعب العربي السعودي الشقيق ، وهو ماض إلى مستقبله المؤمل في ظل وارف من عهد جلالة الملك سعود بن عبد العزيز.
حفظ الله جلالته وأضفى عليه من رعايته ، وسابغ عنايته ما يديم عليه وعلى البيت السعودي العريق نعمة التوفيق في العمل على إنهاض العروبة وإعلاء كلمة الإسلام .