تاريخ الملك سعود.. الوثيقة والحقيقة
عندما وقعت عيناي على تلك المجلدات الثلاث التي عنونها مؤلفها الأمير الدكتور سلمان بن سعود بن عبدالعزيز بـ (تاريخ الملك سعود.. الوثيقة والحقيقة)، تصورت في البدء أنها محاولة لاستعادة مرحلة لم يكتب تاريخها على النحو الذي يرضي الابن عن مشروع أبيه، أو لنقل مرحلة حكم الملك سعود للمملكة العربية السعودية، ولكن بمزيد من التصفح والقراءة وجدت أن ثمة عملاً كبيراً يستحق القراءة والتأمل في ملامح مرحلة، وأن الجهد التوثيقي الواسع فيها يستحق عناء البحث، وأن التناول الموضوعي فيها لظروف مرحلة وملابساتها غالبة على أي محاولة لجر القراءة إلى حقل المنجز وحده. إنها في المجمل عمل يستحق القراءة والتناول من زاويتين: الأولى أنها مرحلة على مستوى المادة المكثفة والموثقة ليست في متناول جيل لم يشهد مرحلة الملك سعود ناهيك أن يكون لديه القدرة على اكتشاف ملامحها، ومن حق هذا الجيل أن يطلع على ملامح مشروع تنموي - تحرك في ظروف بدائية وصعبة - يستحق الاعتراف، والآخر أنها مرحلة ملتبسة على كثيرين حتى تبدو أحيانا ليست من عمر التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي في المملكة.. ولم تشهد تلك المرحلة - حسب ما اطلعت عليه - أي قراءة توثيقية تحليلية شاملة حتى اليوم تتناول مشروعاً تنموياً بدأ يرى النور في تلك المرحلة، خاصة أنها تستدعي الوثيقة في كل إشارة وتحاول أن تكون الوثيقة هي لسان الحقيقة، ولذا تصبح مرجعاً مهماً وجهداً مكثفاً في الجمع والتعليق يرقى إلى أن يكون جزءاً من مادة دراسية للباحثين والمؤرخين .
أعتقد أن الدكتور سلمان بن سعود عندما اختار أن يصدر هذا العمل ويتحمل مسؤوليته، لم يكن فقط يبحث عن تلك الوثيقة التي تدخل في إطار يعزز مشروع ومشروعية الاصدار وحده، بل إن البحث عن الحقيقة كانت هاجسه، ولذا أثق أن تكوينه العلمي والثقافي يتسع لملاحظات قارئ، وأدرك أن الشخصية الباحثة والمتأملة في تكوينه تستدعي قراءة ومعلقين في مستوى عمل كبير حول تاريخ الملك سعود -رحمه الله -.
لا أتذوق أن تكون مهمة كاتب مقال أن يستعرض كتب الباحثين والمؤلفين فقط، أعتقد أن المهمة أن تكون ثمة إضاءة من نوع أو آخر حول مشروع. ولذا لن أسهب كثيراً في استعراض مادة المجلدات الثلاثة، التي للقارئ - المهتم - أن يطلع عليها، وإذ أقدم ملمحاً سريعاً لمادتها فإني أستعيد بضعة ملاحظات أيضاً يمكن تناولها .
الجزء الأول في تاريخ الملك سعود، اشتمل على ثلاثة محاور، المحور الأول : تناول سيرته وفترة حكمه (الملك سعود قبل ولاية العهد، والملك سعود ولياً للعهد، والملك سعود يعتلي عرش المملكة العربية السعودية، والملك سعود وأزمة الحكم في المملكة). المحور الثاني : اهتم بجهود الملك سعود في المحيط الإسلامي وما شهدته فترة حكمه من نشاط على هذا الصعيد (سواء في مجال الدعوة إلى الله أو عمارة الحرمين الشريفين ورعاية الحجيج أو في مجال التضامن الاسلامي). المحور الثالث : اهتم بالمنظومة السياسية عند الملك سعود واحتوى على دراسة نقدية للأدبيات السياسية في الخمسينيات والستينيات وتحليل منظومة الفكر السياسي عند الملك سعود والقسم الآخر في هذا المحور حول إدارة الملك سعود لأزمات سنوات الغليان وتفاعلاتها في المحيط العربي والدولي .
أما الجزء الثاني فقط سلط الضوء على الاصلاحات الادارية والتطور الاقتصادي في عهد الملك سعود عبر محورين، أولهما عن الاصلاحات الادارية: (تنظيم العمل الحكومي، المؤسسات العامة، أجهزة الرقابة، حركة التنمية والادارة المحلية)، والآخر حول التطور الاقتصادي في عهد الملك سعود (القطاع النفطي، القطاع الصناعي، القطاع الزراعي، القطاع النقدي، والقطاع التجاري، قطاع المواصلات والاتصالات) .
الجزء الثالث عُني بقراءة موثقة عبر أربعة محاور لملامح المشروع التعليمي في عهد الملك سعود والإعلامي والرعاية الصحية والتطور الاجتماعي، (عندما كنت طالبا في جامعة الرياض استعادت الجامعة اسم مؤسسها، الذي لم أكن أعرفه أن كلية البترول والمعادن التي تحولت إلى جامعة فيما بعد، أنشئت في عهد الملك سعود، وكذلك الرئاسة العامة لتعليم البنات) .
أعتقد أن المادة الكبيرة والموثقة والراصدة لمشروع التنمية الداخلية وحركة الاصلاح الإداري وبناء أجهزة ومقومات الدولة في عهد الملك سعود في الجزأين الثاني والثالث تكشف ملامح مشروع تنموي يغيب عن ذاكرة أجيال، ولعل الاطلاع على بعض تفاصيل تلك المشروعات يقدم صورة أكثر دقة عن ملامح مرحلة شهدت نمواً وإنجازاً، مقاربة الحقيقة تستدعي الاعتراف به واكتشاف أن مرحلة البناء التي أعقبته كانت تقوم على أسس بدأت ترى النور في تلك المرحلة .
لن أعلق على الجزأين (الثاني والثالث)، فالجانب التوثيقي يعطي انطباعاً كافياً للقارئ أن أسس المشروع التنموي بمقوماته وهياكله مدينة لتلك المرحلة، والمادة المتوفرة تغني عن أي تعليق.. لذا سأنتقل إلى الجزء الأول وهو الجزء الأكثر إثارة والأكثر التباساً في ملامح مرحلة على الصعيد السياسي عربياً ودولياً.. وهو الأكثر تأثيراً في الأحداث التي صاحبت تلك المرحلة أو نتجت عنها .
أعتقد أن الأمير الدكتور سلمان بن سعود أدرك أهمية الجانب التحليلي في هذا الجزء باعتبار أنه يعالج في بعض فصوله مرحلة كانت من أكثر المراحل في المنطقة العربية تأثيراً في مجريات الأحداث بعد الحرب العالمية الثانية.. بل إني أعتقد أن الملك سعود وما صاحب مرحلة حكمه من أزمات على الصعيد العربي والإقليمي والدولي ألقت بظلالها الكثيفة على أزمة الحكم التي أشار إليها المؤلف هي أيضاً نتيجة تفاعلات إقليمية عربية ودولية.. أي أن فهم ما حدث في تلك المرحلة على المستوى الداخلي سيتعذر دون إلمام كاف بالمؤثرات الخارجية آنذاك.. من هنا أعتقد أن العناية بالمزيد من الجانب التحليلي بالمؤثرات الإقليمية والدولية ربما يعطي رواية التاريخ السياسي في تلك المرحلة ما تستحقه من عناية .
لاشك أن نفس الملك سعود رحمه الله كان عروبياً وقومياً، حرب 1956م والتحالف مع مصر عبدالناصر آنذاك في مواجهة العدوان الثلاثي واستخدام سلاح النفط في تلك المرحلة - قطع إمدادات النفط عن بريطانيا وفرنسا - وتسخير امكانات المملكة آنذاك الاقتصادية والسياسية والعسكرية لصالح معركة مصر ضد العدوان الثلاثي كان نموذجاً لهذا التوجه العروبي، مواجهة حلف بغداد والتحالف مع مصر الناصرية آنذاك ضد هذا الحلف الذي يستدعي إعادة النفوذ الإنجليزي للمنطقة عبر بوابة الحلف الموجه لخدمة إدارة الصراع في ظروف الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي.. رفض مبدأ أيزنهاور، إلغاء عقد تأجير قاعدة الظهران الجوية للقوات الأمريكية.. تقوية المناعة ضد الأحلاف، مقاومة النفوذ الاستعماري البريطاني في المنطقة.. مد جسور العلاقة العربية - العربية للنأي بالمنطقة عن تلك التحالفات الغربية - الإقليمية في مواجهة تداعيات الحرب الباردة.. مواجهة آثار التخلص من النفوذ البريطاني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. كل تلك عناصر مهمة يمكن اكتشاف ملامحها في سياسة الملك سعود التي تكشفها وثائق مرحلة تناولها الجزء الأول من تاريخ الملك سعود.. الوثيقة والحقيقة .
إلا أنني أعتقد أن فهم تاريخ مرحلة على نحو أدق يكمن أيضاً في فهم آلية الصراع بين القوى الكبرى آنذاك، كانت ثمة قوة استعمارية مهيمنة على المنطقة (بريطانيا العظمى) بلغ بها الإنهاك والتعب بعد الحرب العالمية الثانية مبلغه، فقدت نفوذها بمصر إثر نجاح حركة الضباط الأحرار في قلب نظام الحكم في مصر في 23 يوليو 1952م، وكادت أن تكون حركة محمد مصدق في إيران المسمار الآخر الذي يدق في نعش الامبراطورية البريطانية التي تنحسر عنها الشمس، وكانت حركة الجيش العراقي في 14 تموز 1958م ضربة موجعة لهذا النفوذ.. ولم تكن الحركات الانقلابية في سورية بدءاً من انقلاب حسني الزعيم عام 1949م والانقلابات المضادة ببعيد عن هذا المسلسل الذي ينهش في ترتيبات نظام استعماري قديم ولم تكن الولايات المتحدة ببعيدة عن كل ما يجري، إنها المعادل الآخر في صراع القوى الكبرى.. أي أنها كانت ترى نفسها الوريث الذي دخل المنطقة لاستلام بقايا نفوذ امبراطورية غابت عنها الشمس.. لعبة الأمم كانت كشفاً مهماً لأجندة التحول في وراثة القوى الاستعمارية للنفوذ في المنطقة.. من هنا نفهم كيف يمكن أن تكون إدارة الأزمات صعبة ومعقدة وخطرة في مرحلة كتلك.. منذ فشل حرب السويس عام 1956م، ومواجهة الولايات المتحدة لمحاولة بريطانيا استعادة مصر، لم يقر لبريطانيا قرار وظلت تعيد ترتيب أوراقها في المنطقة وتعيد صياغة التحالفات والدسائس والمؤامرات لاستعادة بعض نفوذها.. وفي اعتقادي لم تكن الحرب الباردة جزءاً من لعبة الشرق الأوسط، كانت الفزاعة التي تستخدم لتمرير التحالفات من حلف بغداد إلى مبدأ أيزنهاور.. لم يكن للاتحاد السوفييتي وجود أصلاً وغير قابل للوجود المؤثر في المنطقة، الحرب الباردة كانت هناك على تخوم أوروبا الشرقية وباستثناء عدن تبدو قصة نفوذ السوفيات في المنطقة والمد الشيوعي رواية غير قابلة للتصديق تغطي صراعاً من نوع آخر يخفي معالمه بين قوى وريثة وقوى تتفكك لكنها تحاول بشتى الطرق الصمود والبقاء بالتحالفات والدسائس والانقلابات والانقلابات المضادة، وحتى باستدعاء بعض آثار الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي .
من هنا نفهم هذا الصراع الذي عاشته المنطقة بين نفوذ قديم يحاول استعادة بعض مواقعه وبين قوة جديدة أدركت أهمية هذه المنطقة - الشريان الرئيسي الذي يضخ الحياة في جسد العالم الصناعي اليوم - ولذا لا غرابة أن تنحسر كل نقاط التوتر والصراع في عالم اليوم لتظل متقدة فيها .
ربما كان فهم حقيقة هذا الصراع يساعد على فهم أفضل لتلك المرحلة التي أفرد لها الأمير الدكتور سلمان بن سعود محوراً خاصاً تحت عنوان إدارة سنوات الغليان وتفاعلاتها في عهد الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز رحمه الله .
جريدة الرياض اليومية
الأثنين 15 شعبان 1426هـ - 19 سبتمبر 2005م - العدد 13601
جريدة الرياض اليومية