بقلم : الأستاذ إحسان عبد القدوس
قابلت جلالته في قاعة العرش بالقصر المربع بالرياض.. وهو قصر بناه الملك عبد العزيز
وسمي " المربع " لأنه مربع الأركان يقوم في كل ركن منها حصن أشبه بحصون القرون الوسطى . وكل قصر هناك له اسم .. فالقصر الذي يقيم فيه الملك سعود يسمى " الناصرية ".
وسرت داخل القصر المربع بين عشرات من حملة السيوف الذهبية يجلسون على الأرض في الممر المؤدي إلى قاعة العرش.
ودخلت إلى القاعة الكبيرة وقد ازدحمت حول جوانبها وجوه زعماء القبائل والعشائر .. وجوه ترسم صوراً من أساطير العرب التي قرأناها في الكتب .. أساطير الشجاعة والسيوف الباترة والكرم الحاتمي..
وتقدمت إلى حيث يجلس الملك سعود .. ضخماً قوياً في ضخامته وقوته بساطة العربي وخشونته..
وضغط جلالته جرساً بجانبه فجاء حامل القهوة يقدم لنا القهوة العربية المرة .. قطرتين في كل فنجان ، وجاء خلفه أحد حملة السيوف يسحب منك الفنجان بمجرد أن تنتهي منه ..
وقبل أن يبدأ جلالته الحديث ، جاء الموظف المختص بالاستماع إلى الإذاعات الخارجية ، وجلس على الأرض بين يدي جلالته وأخذ يقرأ تقريره ، وكان يحمل نبأ المذابح التي وقعت في السودان يوم زيارة الرئيس محمد نجيب..
والتفت جلالته إليّ قائلاً :
• إنها دسائس الاستعمار..
قلت - نعم ..
وخيل إليّ أن عاصفة تمر بوجهه ، وان زوبعة تحاول أن تنطلق من صدره .. ثم كأنه لم يعد يحتمل ، فقطع تلاوة تقرير الإذاعة الخارجية مرة ثانية ، والتفت إلىّ قائلاً : - وأنا أنقل حديثه من الذاكرة - :
• لا أدري ما ذا يكسب هؤلاء الانجليز بعداوتنا ..لقد كنا أصدقاءهم ، واشتركنا معهم في الحرب بلا ثمن ، وكنا سنحفظ لهم صداقتنا دائماً إذا احتفظوا لنا بحقوقنا .. ولكنهم لم يحفظوا لنا حقاً ولا راعوا لنا صداقة .. فلن نكون معهم مرة ثانية ، وسيدخلون الحرب والعدو أمامهم والعدو وراءهم ولن يستطيعوا أن يحاربوا بوجوههم وأقفيتهم .. إنهم يخسرون بعداوتنا
وسيعلمون يوماً خسارتهم ..
قلت وقد علمت إن جلالته يشير إلى مشكلة البريمي :
• وما العمل .. كيف نتغلب على الانجليز؟
قال وكأنه يعلن الجهاد المقدس :
• قرروا شيئاً ونحن في الصف الأول منكم .. وسنضحي بكل شيء .. بأرواحنا ومالنا ، فلا حياة لكريم ولا كرامة لماله إن لم يصن حقه .. ورقابنا رخيصة .. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره .. والسيف أكرم من غيره..
هذا هو الملك العربي .. خطوط مستقيمة صريحة تصل إلى الواقع مباشرة وتواجهه مهما كان مراً ومهما كان صعباً..
وعندما تحدث جلالته عن الوحدة العربية ، طغى على صوته مرة ثانية حماس عنيف ، وكان شاب ملتهب العاطفة لا يقبل في قضيته عذراً ولا تحجباً .. قال:
• إن الوحدة العربية قائمة فعلاً ولكنها قائمة بين الشعوب .. وإذا كان هناك عيب فهو عيبنا نحن على مقاعد الحكم .. أقولها صريحة .. انه عيبنا نحن لا عيب الشعوب فهي شعوب متحدة قوية باتحادها لا يضعفها إلا سياسة الحكومات ..
وقد كنت مندوباً عن والدي الملك في اجتماع انشاص لرؤساء الدول العربية وقد وصلنا إلى عدة قرارات أهمها الاحتفاظ باستقلال الدول العربية وصيانة أوضاعها الحالية ، ووقعنا هذه القرارات .. أين هي القرارات وأين هي التوقيعات ؟ وكيف نصون الوحدة إذا عجزنا عن صيانة قراراتنا وصيانة توقيعاتنا !! ؟.
هذه الروح العربية الصريحة التي تتردد في صدر الملك يتجاوب معها الشعب كله فهم هناك لهم أحساس مرهف عجيب بكل ما يجري في الدول العربية .
والمملكة السعودية أكثر الدول حاجة إلى أبناء الدول العربية الأخرى ليساهموا في معركة التقدم السريع الضخم التي تجتازها .. وهي تحتضن اليوم آلافاً من الفلسطينيين وآلافاً من السوريين وآلافاً من اللبنانيين وعشرات من المصريين ، كلهم يجدون عملاً ، وكلهم يفسح أمامهم ميدان واسع للإنتاج والإثراء .. وأنت إذا سرت في شوارع جدة أو الرياض يخيل إليك انك في مصنع كبير لا يكف عن الإنتاج ..
العمارات والقصور تبنى بالعشرات ، والطرق تشق في سرعة عجيبة ، والشركات تؤسس في كل يوم ، والمصالح الحكومية والمستشفيات والمدارس وخزانات المياه ، والآلات الضخمة تصطدم عينيك في كل مكان .. آلات البناء وآلات رصف الطرق ، وآلات الكهرباء .. آلات ليس لها مثيل في مصر وكلها من أمريكا!!..
إن الأمراء ورجال المملكة الذين سافروا إلى أوروبا وأمريكا لم يعودوا وكل ما في رؤوسهم ذكريات لهو ، بل عادوا وفي رؤوسهم صور المدينة .. صور أرادوا أن يرسموها في بلادهم
فاندفعوا اندفاعاً غريباً في نقلها ، وتنافسوا فيما بينهم .. منهم من يبني قصراً أفخم ، ومن منهم يبني مستشفى أضخم ، ومن منهم يبني مشروعاً أكبر . واتخذت هذه المناسبات قالباً شخصياً زادها لهيباً واندفاعاً ، خصوصاً بين الوزراء والأمراء والتجار..
وبعض الأمراء هناك يتولون الوزارة مع بعض أبناء الشعب ، ورغم ذلك فان الأمراء ليسوا أغنى رجال الدولة .. إنما أغناهم هم طائفة التجار .. طائفة الأفراد كالكعكي ، وبن لادن ، وزينل
ورضا .. والشربتلي .. الخ ..
هؤلاء هم الذين يقع في أيديهم تسعة أعشار دخل المملكة من البترول ومن موسم الحج ، يحولونه إلى الخارج ليستوردوا به المدينة الحديثة .. وقد يحتكر الواحد منهم أكثر من نوع من التجارة ، وقد يملك كل منهم عدداً من الشركات يتراوح بين شركتين وعشرين شركة ، تتولى أعمالاً لا رابط بينها ولا صلة ، فقد يكون الواحد منهم رئيس شركة للاسمنت مثلا ، وفي الوقت نفسه رئيس شركة للسيارات ، ورئيس شركة للمقاولات الخ ولا سبيل لغريب بينهم إلا إذا شارك واحداً منهم !!. وهم جميعاً أصحاب نفوذ كبير وقد تضخم هذا النفوذ حتى أصبح بعضهم " وزراء دولة " واشتراكهم في الوزارة لم يحل دون استمرارهم في التجارة !!.
وقد يكون هذا النظام الرأسمالي المركز غريباً في الدول الأخرى ولن نقبله في مصر ولكنه في المملكة السعودية أمر لا بد منه .. فان إنشاء دولة جديدة يحتاج دائماً إلى المجهود الفردي وإلى المنافسة الشخصية أكثر مما يحتاج إلى النظم التي تتولاها الدولة ..
أعود إلى القول بأن المملكة السعودية هي أكثر الدول حاجة إلى أبناء الدول العربية الأخرى ليساهموا مع شعبها في معركة التقدم السريع الضخم التي تخوضها ..
فبعض أبناء هذه الدول يعتقدون انه يكفي أن يذهبوا إلى هناك ليغترفوا الذهب من فوق أرصفة الشوارع أو أنه يكفي أن تلقي قصيدة مدح بين يدي أمير ، ليصيح في حارس خزائنه " زه !! " فيملأ فمك ذهباً!..
وهذا الظن خاطئ وقد راح ضحيته الكثيرون .. وهذا الزمن قد ولى ولن يعود وأصبح هناك اليوم وعي كامل لكل قرش يخرج من كل جيب ، واتخذ الكرم العربي مظهراً غير تقدير الثناء وقصائد المديح ، إنما هو اليوم كرم يخفي وراءه ذكاء وحرصاً قد يصل إلى حد سوء الظن بكل وافد وبكل من يسعى وراء هذا الكرم ..
ولم يعد للنصابين مجال كبير هناك بعد أن سبقهم النصابون الأول وتركوا وراءهم تجارب أليمة لا تنسى ..
وقد يقول الأمير أو الثري السعودي " زه " وقد يملأ فمك ذهباً .. ولكن ذلك لن يكون اليوم إلا إذا قدمت له عملاً منتجاً يتباهى به أمام أمته وأمام قرنائه أو إذا ساهمت بعلمك وفنك في مشروع يقوم به..