بقلم : الأستاذ حبيب جاماتي
إذا أردت أن تبدي رأيك في المملكة العربية السعودية ، وتصدر فيها حكمك من أية ناحية من النواحي، وأي وجه من الوجوه ، لن يكون رأيك صائباً ، ولن يكون حكمك عادلاً ، مالم تعد بالذهن إلى أكثر من ربع قرن إلى الوراء ، وتقارن بين ما كانت عليه تلك البلاد في الزمن الماضي ، وما آلت إليه في الوقت الحاضر...
كانت جزيرة العرب مجزأة إلى أقاليم تبسط عليها الدولة العثمانية سلطة تمتد أو تنكمش أو تتضاءل حسب الظروف والأحوال ، ولما تقلص ظل الحكم العثماني ، بعد الحرب العالمية الأولى واشترك العرب بثورتهم المشهورة ، قامت في كل من تلك الأقاليم دولة ، وحاول الهاشميون أن يجعلوا الحجاز قاعدة لإمبراطورية تحقق الوحدة العربية ، فخانهم التوفيق وخسروا الحجاز مهد أسرتهم ، واضطروا إلى الانسحاب من قلب جزيرة العرب ولكنهم أنشأوا في أطرافها دولتين : العراق والأردن . وطلع في الفضاء نجم الأسرة السعودية ، وفي سنة 1954 يكون قد مر نحو ثلاثين سنة على ضم الحجاز وعسير ونجد وملحقاتها ، ونحو ثلاث وعشرين سنة على توحيد أجزاء " المملكة العربية السعودية " ونحو عشرة أعوام على بدء استثمار حقول البترول وتأمين دخل الخزينة السعودية من تلك الثروة الكامنة في جوف الأرض ، ونحو عشرة أعوام أيضاً على انضمام المملكة إلى موكب العروبة باشتراكها في الجامعة العربية ...
منذ نصف قرن تكونت الموجة السعودية التي قدر لها أن تكتسح الجزيرة وتغمرها وتوحد بين أجزائها وتحولها من جحيم إلى نعيم ومن صحراء إلى جنان . ومنذ ربع قرن انتهى عهد الفتح وجاء عهد الترميم والإصلاح والتعمير . فهل أدى السعوديون رسالتهم ، وهل قاموا بواجبهم ، في داخل بلادهم ، وفي موكب العروبة ، وفي المضمار الدولي ، منذ أن خرج عميدهم من الكويت يطلب الطعن والنزال ، وفي أوائل القرن الحالي ، إلى أيامنا هذه بعد اجتياز تلك المراحل العجيبة في نصف قرن ؟.
ساعدتني الظروف فعرفت جزيرة العرب ، وطفت في أرجائها ، وأقمت في بعض مدنها وتوغلت في بيدائها ، ومارست حياة الخيام في ربوعها ، ودرت حول سواحلها ، وذلك في خلال سنوات تربو على الخمس والثلاثين ، تخللتها حربان عالميتان ، وحروب محلية كثيرة...
عرفت جزيرة العرب أبان الثورة العربية في الحجاز ، في الحرب العالمية الأولى ، وعرفتها بعد قيام الدولة الهاشمية بزعامة الحسين بن علي . وعرفتها بعد الغزو السعودي ، وصهر الأجزاء في بوتقة واحدة ، وانشأ المملكة العربية السعودية ، وعرفتها أخيراً في خلال انطلاقها من داخل الطوق العربي إلى رحبة المجال الدولي ...
كيف كانت الحال في بدء تلك المراحل وكيف أصبحت؟
تكونت امة القبائل المتناحرة ...
تآلفت دولة من الإقاليم المتخاصمة...
تراجعت الصحراء أمام المزارع والبساتين ...
حل الأمن والاطمئنان محل الخوف والفوضى...
كان أداء فريضة الحج مغامرة فأصبح نزهة...
كان المريض يموت في الطريق فصار يعالج في مصحة...
كانت الخزينة خاوية خالية ، فامتلأت اليوم حتى فاضت ، وصار في وسع المسؤولين أن يحققوا ما تحتاج إليه البلاد من مشروعات ، وإصلاحات ، وإنشاء وتعمير ... ربع قرن من الزمن .. ما قيمة هذه الحقبة في حياة أمة وفي تاريخ دولة ؟.
كان على عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أن يأتي بالعجائب والمعجزات ، في خلال هذه المدة ، وأن يصنع كل شيء من لا شيء ، وأن يزيل العقبات ويذلل الصعوبات ، وكان على أبنائه ، ومعاونيه ـ أن يضطلع كل منهم بقسطه من المجهود الجبار ، فكانوا جميعاً المعاونون والأبناء ، مثل الملك ، جديرين بحمل العبء وأداء الرسالة ، وسيكونون مع الملك الحالي مثلما كانوا مع أبيه الملك الراحل.
هذا من الناحية الداخلية ، فقد كان على السعوديين أن يشيدوا البناء من أساسه حجراً فوق حجر بدون الاعتماد على أي عون يأتيهم من الخارج ، بل إن الأعين كانت لهم بالمرصاد ، وكان خصومهم يتربصون بهم الدوائر ، هذا لإثارة الفتن في إقليم من الأقاليم النائية ، وذلك لإضرام نيران الحرب الأهلية ، هذا لاستغلال النعرات الدينية في محاربة الدولة الفتية ، وذاك لبث الدعايات المغرضة ضدها في الدوائر الدولية . وقد أحرز أولئك الخصوم بعض النجاح في الشرق الغرب ، في النطاق العربي وفي المضمار العالمي ، ولكنه نجاح لم تنضج أثماره ، فذهب نفحة في الهواء!.
وبعد الاستقرار الداخلي ، بسط السعوديون أيديهم إلى الشعوب العربية المجاورة وقد وضعوا القلوب على الأكف ، ودعوا إلى التفاهم والتعاون والتكاتف...
عقدوا في بادئ الأمر اتفاقات ومعاهدات مع مصر والعراق والأردن واليمن وغيرها ، وتحمسوا لمشروع الجامعة العربية ثم اشتركوا بها وكانوا دائما حريصين على احترام مقرراتها . ولم يصنعوا من أجل فلسطين أقل مما صنع غيرهم . وهم اليوم يتضامنون مع كل أمة عربية تنشد أملاً أو تطلب حقاً أو تدفع ضيماً...
وفي الوقت نفسه ، كان السعوديون يتبوأون مركزهم بين شعوب العالم في هيئة الأمم المتحدة فيناقشون دستورها ، ويوقعون عليه مع الموقعين ، ويحرصون كل الحرص على أن تظل نصوصه خترمة نافذة ، ويرفعون الصوت في مجلس الهيئة ولجانها دفاعاً عن المظلومين من العرب أو من غير العرب على السواء...
أصبحت القبائل إذن أمة في جزيرة العرب . وانضمت الأمة إلى الأسرة العربية في جامعتها . ومشت مع موكب العروبة في مضمار النشاط الدولي ، وتحملت مسؤولياتها كاملة في جميع الميادين فأنعم بها من قبائل . وأنعم بها من امة وانعم به من موكب ...
ولكن لا بد من كلمة صريحة نختم بها هذا الاعتراف والثناء : لقد حدث في بعض ميادين النهضة السعودية تقصير ، أو خطأ ، أو ركود . وكانت الأعذار في ذلك الوقت معقولة مقبولة : الإفتقار إلى الخبراء ، أو إلى التجارب ، أو إلى المال - إلى المال على الخصوص ، المال الذي هو دعامة كل نهضة ، والذي لولاه لتعذرت جميع النهضات ولتعثرت جميع الوثبات...
والمال الآن موجود في الخزائن . والآتي منه أكثر من الموجود . وليس هناك ما ينذر بأن معين هذا المال قد ينضب يوماً من الأيام . فالعذر إذن - عذر الإفتقار إلى المال - قد زال ولن يعود والأعذار الأخرى تعالج بوجود هذا المال ، والذي هو علاج كل شيء.
فالنهضة السعودية يجب إذن أن تجتاز المراحل الباقية نحو الكمال المنشود ، وترتقي مدارج العلى بلا توقف ولا إبطاء ، بسرعة ، وثبات ، وإطمئنان ، بعد أن توفرت لها جميع وسائل التوفيق والنجاح ...
ومكان المملكة السعودية في موكب العروبة مرموق ، ودورها فيه ممتاز . وهذا ما يفرض عليها واجبات جساماً ، قامت حتى الآن ببعضها ، وبقى عليها القيام بالبعض الآخر . وستكون - لا شك في هذا - أمينة على رسالتها ، وفيه مخلصة في مواصلة أدائها ، آخذة دروس الماضي بعين الاعتبار في المستقبل . وفق الله سعوداً ، كما وفق أباه ، وكلل مساعيه بالنجاح في جميع الميادين.