المؤتمر/ سعدون ثامر
حلف بغداد هو احد الاحلاف التي شهدتها حقبة الحرب الباردة حيث تم انشاؤه في عام 1955 لغرض الوقوف بوجه التغلغل السوفيتي (المد الشيوعي) في الشرق الاوسط.
الولايات المتحدة هي صاحبة فكرة انشاء هذا الحلف حيث وعدت بتقديم الدعم العسكري والعون الاقتصادي للاعضاء ولكنها لم تشارك فيه بشكل مباشر وانما وكلت بريطانيا للقيام بهذا الدور.
وكانت مصر والسعودية وسوريا قد جندوا لكل ما لديهم من امكانيات لمقاومة هذا الحلف والحيلولة دون انضمام العراق اليه.وقد بذل سعود بن عبد العزيز الملك السعودي آنذاك كل ما بوسعه لابعاد العراق عن هذا الحلف وقام بمساعي حثيثة لاقناع الحكومة العراقية بعدم (التورط) في هذا الحلف الذي من شأنه كما يعتقد (ان يفّرق البلاد العربية،ويضعف الصف العربي) ولكن جميع محاولات الملك السعودي ذهبت ادراج الرياح لانها لم تجد صدى لها عند حكومة العراق.
وكانت الحكومة العراقية مؤمنة من ان التكتل مع الدول المتاخمة للحدود وتوقيع ميثاق معها يأتي لدرء خطر (شيوعي) محتمل وكذلك للمحافظة على استقلال البلاد وثرواتها الطبيعية والبترولية.
فكرة الحلف
وتبدأ فكرة حلف بغداد الى ربيع سنة 1953 عندما قام (فوستر دالاس) وزير خارجية الولايات المتحدة برفقة (هارولد ستاس) برحلة استطلاعية في الشرق الادني،واجرى محادثات في انقرة مع السيد (عدنان مندريس) رئيس وزراء تركيا،وقد خطرت في باله فكرة انشاء جبهة شرقية بمثابة «درع» يقي المنطقة الشرقية الشمالية من هجوم سوفياتي محتمل،فكان من الضروري لتقوية هذا «الدرع» ان يصار الى جمع اكثر عدد ممكن من الدول المتاخمة لتركيا،فيكون همزة وصل بين الحلف الاطلسي وحلف شرقي جنوب آسيا.
وفي كانون ثاني سنة 1954،دُعي (محمود جلال الدين بأيار) الرئيس التركي 1950-1960 الى واشنطن لتدارس الوضع مع رئيس الولايات المتحدة أيزنهاور،وفي المحادثات ادلى (جلال بأيار) بتصريحات في مؤتمر صحفي عقده في واشنطن بأنه لم يعد ثمة مجال امام الحياد،بل يجب الاختيار اما (بالتعاون مع دعوة الحرية او بالسير في طريق العبودية) وعلى اثر المؤتمر ثارت ثائرة الصحف السوفياتية وقالت احداهن «لقد خيل الى رئيس جمهورية تركيا بأنشاء درع ضد السوفيات ارضاء لاوصيائه الامريكان،غير انه سها عن باله ان هذا الدرع لايلبث ان يتحطم بين يديه،ذلك لان الدول المجاورة له غير راضية عن ذلك،ولم يعر (بأيار) ولا رئيس وزراء (مندريس) اي اهتمام لتهديدات موسكو.
وفي 19 شباط سنة 1954،اعلنت حكومة تركيا وحكومة باكستان بأنهما قررا انشاء معاهدة تعاون متبادل بين البلدين،فيرزت الى الوجود نواة حلف بغداد،وقد تم توقيع الحلف التركي-الباكستاني في 2 نيسان 1954 في كراتشي،وقد كان هذا الحلف يتسم بالصفة العسكرية دون ان يحمل اسمها في ظل المادة (51) من ميثاق الامم،وقد رحبت الولايات المتحدة وبريطانيا بالحلف واعتبرتاه انتصاراً للعالم الحر.
انضمام العراق الى الحلف ورفض العرب
ولما كان العراق جغرافياً يفصل بين كل من تركيا وباكستان فكان لابد من ان تكون الخطوة التالية إشراك العراق في الحلف واذا كانت فكرة الحلف التركي-الباكستاني وليدة الدبلوماسية الاميريكية،فقد كانت التكملة من صنع بريطانيا،او بالاحرى من صنع نوري السعيد صديق بريطانيا الحميم.
وقد كان السعيد مؤمن بأن مصلحة العرب عموماً والعراق خصوصاً تكمن في استمرار العلاقات بينهم وبين الغرب لاسيما بريطانيا.
ومما لاشك فيه ان نوري السعيد كان من دعاة «الدرع الشرقي» لا بل اكثرهم تحمساً له،ولم ير في هذا «الدرع» او «الحلف» دفاعاً عن العراق ضد (المد الشيوعي) فحسب لابل كان يرى فيه وقاية من اخطار وتغلغل دول الجوار العراقي في شؤونه الداخلية،وكذلك الحفاظ على ثرواته وانمائها،كما كان يصرح للمقربين منه.
وربما كان يهدف من وراء ذلك الى بعث فكرة الهلال الخصيب في المنطقة،تلك الفكرة التي كان قد تخلى عنها عام 1949،امام تأزم الحالة بينه وبين مصر والجزيرة العربية.
في نهاية عام 1954 زار رئيس الوزراء التركي (عدنان مندريس) بغداد وكان برفقته وزير خارجيته،وقد جرت محادثات مع كل من رئيس الوزراء نوري السعيد،وكذلك الوصي عبد الاله،وصدر بلاغ اثر الزيارة يؤكد ضرورة عقد حلف للدفاع المشترك بين العراق وتركيا ضد اي اعتداء داخلي او خارجي.
وما ان صدر البلاغ حتى هبت القاهرة والرياض والشام دفعة واحدة،فأجرى الملك سعود اتصالات عربية واسعة النطاق،محذراً من عقد اي حلف عسكري بين بغداد وبين اية دولة اخرى غير عربية ،فيما صرح (صلاح سالم) من الاسكندرية انه يجب شنق نوري السعيد!!.
وفي كانون الاول سنة 1954 هددت مصر بالانسحاب من الجامعة العربية وتبادل العراق والسعودية التهديدات بسحب السفراء،ولكن يبدو ان تلك الحملات والتهديدات العربية العنيفة لم تكن لتؤثر على مجرى المحادثات بين بغداد وانقرة،إذ في الثالث عشر من كانون الثاني سنة 1955 صدر بيان في بغداد موقع من حكومتي تركيا والعراق،اثر محادثات استغرقت عدة ايام ترمي الى عقد اتفاق غايته تحقيق وتوسيع التعاون لتأمين استقرار منطقة الشرق الاوسط وسلامتها.ويتضمن تعهداً بالتعاون لصد أي عدوان يقع عليها من داخل المنطقة او خارجها.
وذلك بناء على حق الدفاع الشرعي واستناداً الى المادة (51) من ميثاق الامم المتحدة.
وكان لهذا البيان اثر سيء في بعض العواصم العربية،وقد وجه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الدعوة الى رؤساء الحكومات العربية للاجتماع في القاهرة لتبادل وجهات النظر والموقف من هذا البيان.
وفي 14 كانون الثاني وصل وفد تركي الى بيروت على رأسه رئيس الوزراء «عدنان مندريس» وكذلك وزير خارجيته «كروبولو»، بدعوة من حكومة لبنان،وكانت غاية الحكومة اللبنانية كما يذكر الرئيس (سامي الصلح) في مذكراته،معرفة جميع التيارات التي كانت تحيط بلبنان،والوقوف على تفاصيل الابحاث والمناقشات المتعلقة بهذه،المنطقة الحساسة التي ينتسب اليها لبنان،ويحتل فيها موقعاً استراتيجياً حساساً،فأن واقع لبنان يفرض عليه عدم التحالف مع اية دولة خارج نطاق الجامعة العربية،والتزمت دولة لبنان آنذاك على الصعيد الرسمي الحياد بين جماعة حلف بغداد والدول العربية المناوئة له.
وفي 18 كانون الثاني اي في اليوم الذي غادر فيه الوفد التركي لبنان،اصدرت الحكومة السعودية بياناً ايدت فيه موقف الحكومة المصرية واستنكرت بشدة الاتفاق العراقي-التركي وأسفت لاتخاذ الحكومة العراقية هذا الموقف،ومما جاء في البيان ان الحكومة السعودية لاتؤيد ولا تقر اي اتفاق لم يبحث في الجامعة،وكما وان الملك سعود قد نصح رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد بعدم (توريط) العراق بأتخاذ هذه الخطوة.
مؤتمر الجامعة العربية في القاهرة
وفي 22 كانون الثاني 1955 اجتمع في القاهرة رؤساء الحكومات العربية بناء على دعوة الرئيس المصري،وبحثوا الخطوط الرئيسية للسياسات العربية،والتعاون الاقتصادي والمساعدات الاقتصادية والعسكرية ومشروع الاتفاق العراقي-التركي.
واتخذ رؤساء الحكومات العربية توصيات بتركيز السياسات الخارجية وفق ميثاق الجامعة العربية ومعاهدة الدفاع المشترك،والتعاون الاقتصادي،وميثاق الامم المتحدة،وان لا تقر احلافاً غير ذلك،كما اقرت التعاون مع الغرب شرط حل القضايا العربية حلاً عادلاً،واتاحة القوةاللازمة للبلدان العربية كي تحافظ على سلامتها وكيانها من اي عدوان،بدون ان يكون في ذلك انتقاص من سيادتها على ان مناقشة مشروع الاتفاق العراقي-التركي اسفرت عن تباين عميق في الآراء.
والجدير بالذكر ان رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد اعتذر عن حضور الاجتماع ولم تفلح كافة المحاولات في تغيير موقفه وقد علل عدم مجيئه الى القاهرة بدواعي صحية،فأناب عنه في الاجتماع مندوب العراق في جامعة الدول العربية.
وقد استقر الرأي في هذا الاجتماع على ارسال وفد الى بغداد للقيام بمحاولة يائسة لاقناع نوري السعيد وسائر رجالات العراق بالعدول عن هذا التحالف الذي (صدع الصف العربي).
ولم تسفر المحادثات التي اجراها وفد الجامعة العربية في بغداد عن نتيجة.
وتصاعدت الحملات الاعلامية بين بغداد من جهة والقاهرة والرياض من جهة ثانية.وكان ابتعاد العراق عن الحظيرة العربية فضلاً عن انه سابقة خطيرة فهو امر ينذر بالانفجار وفي هذا الجو المضطرب وبعد ان شعرت الدول العربية ان نوري السعيد سيمضي في مشروعه الى النهاية وجه الملك السعودي سعود بن عبد العزيز في الحادي عشر من شباط خطاباً الى الشعوب العربية حذرهم فيه من ان الامة بأسرها تمتحن اليوم في اعز شيء عليها وهي الجامعة العربية!! وذكر بأن احد رجال العرب (نوري السعيد) قد خرج عن اجماع الامة العربية وارادة شعوبها وانه (أي الملك) قد عجز عن اقناعه بالعدول عن (خطر الخطوة المفزعة التي اقدم عليها) وتحمل من اجل ذلك مسؤولية التأريخ بتعريض البلاد العربية للخطر.
وكان راديو بغداد قد نقل نقاشات مجلس النواب العراقي والتي تضمنت الدفاع عن مشروع (حلف بغداد) وكذلك رد الاتهامات السعودية والمصرية،وقد وجه النائب محمود بابان نقداً لاذعاً لمصر والسعودية.وقد اشتدت الحرب الاذاعية والصحفية بين بغداد والقاهرة والرياض.
وعلى الرغم من الغضب العربي فأن رئيس الوزراء نوري السعيد لم يتراجع،ففي 25 شباط 1955 تم توقيع الحلف في بغداد لمدة خمس سنوات اسوة بشروط الحلف الذي تم بين تركيا وباكستان،وفي الحال اعلنت الحكومة البريطانية ارتياحها وتأييدها ،واكدت رغبتها في الانضمام الى الحلف وقد تم ذلك بعد مرور عشرين يوماً من اتفاق بغداد.
اما واشنطن فقد ابدت بعض التحفظات وواجهت بعض الاحراج امام حليفتها السعودية لكنهم يعلمون ان الحلف سيفيدهم كثيراً وخصوصاً من الناحية العسكرية التي يسعون لتحقيق مكاسب فيها،وقد نقلوا فوراً قاعدتهم العسكرية من طرابلس الغرب في ليبيا الى (أخنه) في تركيا وبالنسبة لسوريا فلم يكن هناك اي امل في انضمامها الى الحلف فهي منذ عدة سنوات تطالب بلواء (الاسكندرون) من تركيا،الا انها حاولت التدخل لتخفيف الحملة ضد الحلف مخافة من ان تقع هي ضحية بين بغداد وانقرة.
وفي الاردن فقد لاقت الفكرة قبولاً ورواجاً كبيرين،وذلك مقابل 22 مليون جنيه استرليني كانت تدفعها الحكومة البريطانية سنوياً لخزينتها،واوفدت الحكومة البريطانية وفداً الى عّمان لاقناع الملك حسين،غير ان هذه الجهود ذهبت سدى وبصورة دراماتيكية فأستقال اربعة وزراء من الحكومة في نفس اليوم الذي تقرر فيه توقيع المعاهدة ووقعت بعض الحوادث الدامية في عمان والمدن الاردنية،وتعاقبت ثلاث حكومات في غضون ثمانية ايام وشعر الملك حسين بخطورة الامر،فتخلى عن فكرة الحلف،ثم اعلنت الحكومة الاردنية رسمياً عدم انضمامها الى حلف بغداد،وعلى الاثر قام سعود بن عبد العزيز بتهنئة الملك حسين وهذا ما قام به الرئيس المصري جمال عبد الناصر ايضاً وقد قررت السعودية ومصر ان يدفعا الى الاردن نفس المبلغ الذي كانت تدفعه لها بريطانيا الا ان الايام شهدت بعد ذلك ان الاردن لم تستلم ولا فلساً واحداً لا من مصر ولا من السعودية.
نهاية حلف بغداد
حلف بغداد الذي جاء بداية على شكل ميثاق بين العراق وتركيا والذي نص على «لا تعاون بين الدولتين في مجالات الامن والدفاع» وترك باب العضوية مفتوحاً اما الدول التي ترغب الانضمام اليه وقد تلا هذا الميثاق انضمام بريطانيا اليه في نيسان 1955 واعقب ذلك انضمام باكستان في تموز في ايران في تشرين الثاني من نفس العام،هذا الحلف لم يحقق ما كان مأمولاً منه،حيث يعتبر احد اقل الاحلاف نجاحاً في فترة الحرب الباردة،ولم يكن له تأثيراً مهماً في حقيقة الامر.
وقد نصت المادة الاولى من معاهدة حلف بغداد على ان الغرض من اقامته هو الدفاع عن امن وسلامة الاطراف المتعاقدة،وتعهدت هذه الاطراف بموجب المادة الثالثة بالامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها،وكذلك تسوية منازعاتها بالطرق السلمية تمشياً مع ميثاق الامم المتحدة.اما مدة سريان معاهدة الحلف فقد حددتها المادة السابعة بأنها خمس سنوات قابلة للتجديد مدة مماثلة وقد كفلت هذه المادة حق الانسحاب لاي من الدول المتعاقدة وذلك بتقديم إخطار خطي قبل ستة شهور من انتهاء مفعول المعاهدة ومن الواضح ان هذا النص لم يؤخذ به اثناء انسحاب العراق من الحلف،فقد كان هو حريصاً على هذا الانسحاب،ولم تكن الدول الاطراف الاخرى حريصة كذلك على استمرار العراق في عضويته وذلك لانعدام وجود الهدف المشترك بين النظام العراقي الجديد بعد ثورة تموز 1958 وانظمة الدول الاطراف الاخرى وخصوصاً في نقطة معاداة المعسكر الشيوعي،وبعد انسحاب العراق رسمياً في آذار 1959 نقل مقر قيادة الحلف من بغداد الى انقرة، وكان جديراً بباكستان ان تنسحب من الحلف بعدما اخفق اعضاؤه عن نجدتها في اثناء حربها مع الهند عام 1971،كذلك فقد نأى الحلف بنفسه عن الصراع العربي-الاسرائيلي في فترة الستينات،وبعد غزو تركيا لقبرص عام 1974 اوقفت امريكا مساعداتها العسكرية والمالية لتركيا.
وبالنسبة للهدف الاساسي من وراء الحلف فقد فشل في وقف نفوذ الاتحاد السوفيتي الذي وطد ووسع علاقاته في الشرق الاوسط.
ومع قيام الثورة الاسلامية في ايران في شباط 1979 واعلانها الانسحاب منه فقد تم حل الحلف نهائيا.
جريدة المؤتمر