الرياض: بدر الخريف
ارتبط اسم حي الناصرية، الذي تحول اليوم إلى واحد من أشهر أحياء العاصمة السعودية، بالملك سعود ثاني ملوك الدولة السعودية الثالثة، الذي حكم البلاد في الفترة من عام 1953 وحتى 1964، إذ اتخذ الملك قصراً له في الحي ليصبح المقر الرسمي لسكناه. ومعه تم بناء حي الناصرية الجديد، الذي قام على أنقاض الناصرية القديم، وذلك في عام 1956، وأطلق عليه اسم «الناصرية»، وضاهى في تلك الفترة مدينة جنيف السويسرية، التي كانت مأوى أفئدة السياح ومضرباً في جمال المدن.
عاش حي الناصرية طوال العقود الستة الماضية أحداثاً وقصصاً، حيث مثل قصر الملك سعود في تلك الفترة البداية الحقيقية لقيام حي الناصرية داخل العاصمة، بما يشبه مدينة داخل مدينة وتطوراً في مساحته وطرازه العمراني ودوره السياسي المحلي والدولي، كما أعطى شاهدا على النهضة العمرانية لمدينة الرياض، والدور التاريخي الذي شهده القصر طيلة أحد عشر عاماً من حكم الملك سعود، كما يعد القصر مدينة صغيرة داخل العاصمة، بل يمثل نافذة على تاريخ عهد الملك سعود، الذي لا يزال مضيئاً في أعماق الذاكرة الوطنية.
وتردد اسم الناصرية كثيراً على ألسنة سكان البلاد، وأوردته وكالات الأنباء والإذاعات حيث المقر الرسمي للملك سعود، الذي تولى مقاليد السلطة في بلاده عام 1953 إثر وفاة والده الملك المؤسس، واستقبل فيه ضيوف البلاد والأمراء والمواطنين، وبعد عدة عقود تحول الناصرية إلى حي مشهور كشهرته السابقة، وبدأت معالمه السابقة في الاضمحلال التدريجي، على الرغم من الجهود المبذولة للمحافظة على بعض معالمه. كما احتضن الحي قطاعات ودوائر حكومية وخاصة تعج بآلاف المراجعين يومياً، إضافة إلى معهد العاصمة النموذجي، الذي كان معروفاً باسم معهد الأنجال أيام الملك المؤسس، وتلقى فيه الأمراء آنذاك تعليمهم في المراحل المختلفة جنباً إلى جنب مع المواطنين. وجاء إنشاء الناصرية عقب قصة طويلة وأحداث مفاجئة، حيث كان ضاحية من ضواحي الرياض ومتنزهاً للملك سعود، وقد تقدم الملك بطلب شراء بساتين «بن ناصر» من مالكها لبناء منزل له فيه فاشتراها ولقبها بالناصرية، وأمر محمد بن لادن ببناء قصره «الناصرية» عليها، لأن مساحتها أكبر من مساحة القصر الأحمر الذي بني بأمر من الملك عبد العزيز كهدية لابنه سعود وتعويض عن منزله الذي أصابه حريق في الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 1943. واستقصى الدكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد أستاذ التاريخ، والباحث المعروف الصورة الماضية للناصرية بكل أبعادها العمرانية والسياسية والاجتماعية، وذلك في بحث يعكف حالياً على وضع اللمسات الأخيرة لنشره من أجل توثيق مرحلة مهمة من تاريخنا الوطني، وفي سياق تطور بناء قصور الأسرة المالكة، والنهضة العمرانية الكبرى لمدينة الرياض في بداية عهد الملك سعود.
واعتماداً على المصادر الوثائقية والمكتوبة وروايات المعاصرين التي سجلها الباحث فإن الناصرية يعد من ضواحي الرياض القديمة وأصبح من أميز الأحياء وأشهرها حالياً. حيث أورد الشيخ عبد الله بن خميس في كتابه «معجم اليمامة» في طبعته التي صدرت قبل 31 عاماً موقع الناصرية، حيث أشار إلى أنه «توجد منطقة شمال الرياض كانت قبلا تعد ضاحية من ضواحيه، اسمها الفوارة وقد شملها العمران اليوم وأصبحت أحياء متعددة، وكنت أعهدها مزارع في فصل الشتاء تنبث الآبار فيها هنا وهنالك، وهي على مشارف الرياض من الناحية الشمالية الغربية يحدها من الجنوب ظهر الوشام، ومن الشمال المعذر، ومن الغرب وادي أليسن، ومن الشرق الظهر الذي يسيل منه أبو رفيع.. وأول من بعثها الملك سعود بن عبد العزيز (رحمه الله) فبنى بها قصراً سماه «الناصرية».. ثم أقيمت الأحياء في الفوارة جنوب هذا القصر وشماله وشرقه وغربه، وهي اليوم من أميز الأحياء وأشهرها.. ففي جانبها الشمالي الشرقي قصر الملك فيصل، وفي جانبها الشمالي قصر الملك خالد وحولهما قصور الأمراء: فهد ونايف وسلمان وناصر وطلال وسطام أبناء الملك عبد العزيز، وقصور عدد من الأمراء».
أما تحديد موقع الناصرية بالنسبة إلى ضاحية الفوارة فهو «موقع المزرعة التي اشتراها الملك سعود عندما كان ولياً للعهد من أحد المواطنين ويدعى «ابن ناصر» وسميت هذه المزرعة باسمه ونسبت إليه، وهي على بعد كيلومتر ونصف غرب مجمع قصور المربع. وكان امتلاك ولي العهد لهذه البقعة أو المزرعة في الثلث الأخير من عقد الخمسينات من القرن الرابع عشر الهجري، وبعد فترة وجيزة تبين أن القصر الخاص لولي العهد سعود بجوار المربع لا يفي بحاجته، ولا يمكن أن يكون كافياً لسكنى أسرته الكبيرة ولوالدته التي كانت تعيش معه داخل القصر، وهي كبرى زوجات الملك عبد العزيز، وأم أكبر أولاده الأميرة وضحا بنت محمد بن برغش بن عقاب بن عريعر الخالدية، فما كان من ولي العهد إلا أن تقدم لوالده مستأذناً في أن يختط منطقة سكنية حول مزرعته الناصرية فسر الملك عبد العزيز بتلك المبادرة ووافق عليها».
ودعا الملك سعود عندما كان ولياً للعهد إلى أول تجربة حقيقية في تحديث مدينة الرياض حينما قرر إنشاء مجمع يليق بمنصبه العالي وتطلعاته المتقدمة، وقد مر بناء قصر الناصرية بمرحلتين لكل مرحلة طرازها العمراني وأغراضها الإدارية والسكنية، حيث باشر ولي العهد سعود في المرحلة الأولى من مراحل بناء القصر بتخطيط بيوت ومساكن ومدارس ومساجد في مزرعته بالناصرية على طراز عمراني، كان مزيجاً من عناصر البناء التقليدية «اللبن والطين والجص وأخشاب الأثل» والعناصر الحديثة «الإسمنت واللبن والطين وأخشاب الدنقل والمرابيع الخشبية والألواح والباشكير والحصر». وهي مواد تستورد من الهند عن طريق موانئ الكويت والبحرين.
ورغبة من ولي العهد سعود في إنجاز هذه القرية السكنية بالسرعة الفائقة قام بتكليف رئيس ديوانه ووزير شؤونه الخاصة الشيخ فهد بن صالح بن كريديس بهذا لشأن، واقترح عليه أن يتم عمل هذه القرية بواسطة عدد من فرق العمل تحت إشراف أحد المصممين المحليين وهو عبد الله بن كليب، ومشرفين على تلك الفرق حتى يتم إنجاز هذا العمل في أسرع وقت وبأفضل طريقة ممكنة، على أن يكون البناء بواسطة بنائين من أساتذة البناء التقليديين (ستودية)، إلى جانب معلمي البناء المحدثين الذين لهم خبرة باستخدام المواد الحديثة.
وتم بناء القصر من دورين بواسطة خمس مجموعات إنشائية يشرف على كل مجموعة شخص مسؤول وهم: عبد الله بن كليب على المجموعة الأولى، وعبد المحسن بن يوسف على المجموعة الثانية، وأبو حمد بن عقيل على المجموعة الثالثة، وحسين بن صالح بن سبعان على المجموعة الرابعة، وعبد الله بن راشد بن عساكر على المجموعة الخامسة. ولم يعثر الباحث على تاريخ محدد لبدء مشروع قصر الناصرية الأول (المرحلة الأولى) عدا ما ذكره وليام فيسي من أن الأمير سعود شرع في بناء المشروع سنة 1951. والمؤكد أن الملك عبد العزيز كان يرتاد الناصرية وما حولها في الفاخرية، بحيث أصبحت منتجعاً مفضلاً للملك عبد العزيز يرتاده من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ويؤدي صلاة المغرب مع مرافقيه، ثم يعود لقصور المربع، وظل على هذه الحال إلى أن انتقل إلى منتجع البديعة بوادي حنيفة. وقد سر الملك عبد العزيز بإنجاز القصر وبحسن تنظيم مسطحاته الخضراء بزهورها وطيورها وبرك مياهها، التي تبلغ مساحتها 4 هكتارات. حيث زرعت الفواكه وأشجار الزينة المستوردة بواسطة مزارعين خبراء من الهند وبخارى. وبدأ ولي العهد يستقبل ضيوف والده فيه من أنحاء المعمورة. ويروي بعض المعاصرين أنه بعد اكتمال بناء قصر الناصرية الأول زار الأمير سعود دمشق ورأى أنوار النيون فانبهر بها، وعند عودته كلف شخصاً يدعى الميداني لإنارة القصر من جميع جوانبه بأنوار النيون، وبعد اكتمال الإنارة دعا الأمير سعود والده الملك إلى وليمة مسائية في القصر فأبدى إعجابه الشديد بفكرة سعود. ويصف أحد الكتاب الغربيين قصر الناصرية في مرحلته الأولى، التي هدم فيها بعد ذلك بقوله: «بنى سعود لنفسه في الصحراء خارج الرياض قصر الناصرية، الذي تقع خلف بواباته باحة من أشجار «التماريسك» وتتخللها حديقة من الزهور والمسطحات الخضراء وأقفاص الطيور وكذلك بركة مياه تغذى بالماء من آبار على عمق الاف الأقدام. وفي المساء يضاء القصر الرئيسي والمسجد بحوالي خمسة وعشرين ألف لمبة ملونة، بينما يعطي لون جدران القصر وهو البرتقالي الفاتح لوناً زاهياً للصحراء المظلمة». ومن خلال بعض الصور النادرة للقصر التي وجدها الباحث في أرشيف دارة الملك عبد العزيز يمكن وصف جوانب من هذا القصر التاريخي الذي توارى في فترة وجيزة.. فقد كتب على إحدى بواباته عبارة (سراي الناصرية ـ يعيش جلالة الملك ويحيا ولي العهد) يعلوها سيفان ونخلة. وعلى الباب عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وعلى البوابة الرئيسية الأخرى ذات الشكل المستطيل إلى أعلى، كتبت عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم» ويعلو البوابة مجسم ملون للسيفين والنخلة.
وفي صورة أخرى يمكن رؤية أحد أسوار القصر الرئيسية العالية وقد وضعت تحت السور كراسي حديدية متصلة لجلوس الخويا والحرس. إن صور طراز بناء هذا القصر النادر الذي جمع بين أسلوبي البناء القديمة والحديثة والذي لم ينتشر بعد ذلك في مدينة الرياض بسب غلبة الطراز الحديث وأسلوب البناء المسلح تبقى شاهدة على مرحلة عمرانية انتقالية لم يكتب لها الصمود أمام زحف أساليب العمارة الحديثة.
أما المرحلة الجديدة لبناء الناصرية فقد تمت عام 1953 بعد أن تولى الملك سعود الحكم، حيث أمر بهدم بناء قصر الناصرية الأول الذي لم يمض على إنشائه وقت يذكر. ويعلل المؤرخ عبد الرحمن الرويشد ذلك أنه بعد أن تطورت مدينة الرياض في آخر حياة الملك عبد العزيز، وأصبح التمدد العمراني فيها سريعاً، وشمل ذلك التطور تغير طراز البناء، ودخلت مواد بناء جديدة.. لم يقتصر التغير على التوسع، بل شمل التهديم وإعادة البناء في المناطق السكنية القديمة التي شقت بها الشوارع، وهدمت مبان من أجل تلك الغاية، وصدر قرار بنقل الوزارات من المنطقة الغربية إلى الرياض، أعيد تخطيط قصور وأبنية مساكن الناصرية للمرة الثانية وقد أضاف الباحث أسباباً أخرى، منها النمو العائلي لأسرة الملك، ومشاهدة الملك أثناء زياراته الدولية قبل وبعد توليه الملك لأنماط مختلفة من عمارة القصور الملكية والرئاسية في أنحاء العالم.
وتم عمل التصاميم والمخططات للمعلم محمد بن لادن للبدء في التنفيذ بطريقة التلزيم بدون مناقصة، ولم تكن قد تأسست بعد شركة مجموعة بن لادن، وإنما استقطب المعلم محمد بن لادن الشركات والمقاولين من الداخل والخارج مثل: شركة حسن أبو الفتوح، وشركة عثمان أحمد عثمان، وشركة أطلس، وشركة الأمير لجلال فايق، وجميل فايق، كما أعطى ابن لادن مقاولة سور الناصرية البالغ محيطة سبعة أميال وارتفاعه خمسة عشر قدماً لمقاول مصري يدعى شفيق السيد فرج، وبنيت في السور ثلاث دروازات «بوابات» وهي: الدروازة الرئيسية الشرقية على شارع الملك سعود، والدروازة الشمالية المطلة على المعذر، والدروازة الغربية.
ويحد الناصرية جنوباً مزرعة الفاخرية التي فيها قصور الأمير طلال بن عبد العزيز ووالدته رحمها الله وأبنائه. ويضم قصر الناصرية آنذاك القصر الخاص بالملك سعود، وقصر الضيافة، والقصور العائلية وعددها خمس وثلاثون فيلا، والمسجد الجامع ومستشفى الناصرية بإدارة أطباء يرأسهم الدكتور ربحي حمادة لخدمة من في داخل الناصرية وخارجها في تخصصات الطب والجراحة والولادة. وفي الجهة الشمالية الغربية للناصرية محطة توليد كهرباء الناصرية التي تغذي الناصرية والمعذر وغرب الرياض، وفي الجهة الشمالية الشرقية تم بناء معهد العاصمة النموذجي بتنفيذ المهندس علي حافظ وهبي وزكي إبراهيم.
وقد تحول الناصرية بعد ذلك إلى حي حيث شقت فيه شوارع فسيحة وبقيت أجزاء من معالم الناصرية وتحولت بناياته إلى قطاعات حكومية من أبرزها مبنى الأمن العام ومرور منطقة الرياض ومكتب المواليد وفلل سكنية ومراكز تجارية واحتضن الحي قبل سنوات ولايزال مبنى معهد العاصمة النموذجي ومقر مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، التي تصدر عنها صحيفة «الجزيرة» وانتقلت قبل سنوات إلى حي الصحافة. وتقع على شارع الناصرية الحالي وزارة الخارجية ومبنى الحرس الملكي كما يحتضن الشارع فندقاً مشهوراً هو فندق السعودية وأقيمت داخل الحي عمارات سكنية يقطنها مواطنون ومقيمون من الجنسيات العربية وخصوصاً السودانية، بالإضافة إلى جنسيات من الحبشة.
ارتبط اسم حي الناصرية، الذي تحول اليوم إلى واحد من أشهر أحياء العاصمة السعودية، بالملك سعود ثاني ملوك الدولة السعودية الثالثة، الذي حكم البلاد في الفترة من عام 1953 وحتى 1964، إذ اتخذ الملك قصراً له في الحي ليصبح المقر الرسمي لسكناه. ومعه تم بناء حي الناصرية الجديد، الذي قام على أنقاض الناصرية القديم، وذلك في عام 1956، وأطلق عليه اسم «الناصرية»، وضاهى في تلك الفترة مدينة جنيف السويسرية، التي كانت مأوى أفئدة السياح ومضرباً في جمال المدن.
عاش حي الناصرية طوال العقود الستة الماضية أحداثاً وقصصاً، حيث مثل قصر الملك سعود في تلك الفترة البداية الحقيقية لقيام حي الناصرية داخل العاصمة، بما يشبه مدينة داخل مدينة وتطوراً في مساحته وطرازه العمراني ودوره السياسي المحلي والدولي، كما أعطى شاهدا على النهضة العمرانية لمدينة الرياض، والدور التاريخي الذي شهده القصر طيلة أحد عشر عاماً من حكم الملك سعود، كما يعد القصر مدينة صغيرة داخل العاصمة، بل يمثل نافذة على تاريخ عهد الملك سعود، الذي لا يزال مضيئاً في أعماق الذاكرة الوطنية.
وتردد اسم الناصرية كثيراً على ألسنة سكان البلاد، وأوردته وكالات الأنباء والإذاعات حيث المقر الرسمي للملك سعود، الذي تولى مقاليد السلطة في بلاده عام 1953 إثر وفاة والده الملك المؤسس، واستقبل فيه ضيوف البلاد والأمراء والمواطنين، وبعد عدة عقود تحول الناصرية إلى حي مشهور كشهرته السابقة، وبدأت معالمه السابقة في الاضمحلال التدريجي، على الرغم من الجهود المبذولة للمحافظة على بعض معالمه. كما احتضن الحي قطاعات ودوائر حكومية وخاصة تعج بآلاف المراجعين يومياً، إضافة إلى معهد العاصمة النموذجي، الذي كان معروفاً باسم معهد الأنجال أيام الملك المؤسس، وتلقى فيه الأمراء آنذاك تعليمهم في المراحل المختلفة جنباً إلى جنب مع المواطنين. وجاء إنشاء الناصرية عقب قصة طويلة وأحداث مفاجئة، حيث كان ضاحية من ضواحي الرياض ومتنزهاً للملك سعود، وقد تقدم الملك بطلب شراء بساتين «بن ناصر» من مالكها لبناء منزل له فيه فاشتراها ولقبها بالناصرية، وأمر محمد بن لادن ببناء قصره «الناصرية» عليها، لأن مساحتها أكبر من مساحة القصر الأحمر الذي بني بأمر من الملك عبد العزيز كهدية لابنه سعود وتعويض عن منزله الذي أصابه حريق في الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 1943. واستقصى الدكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد أستاذ التاريخ، والباحث المعروف الصورة الماضية للناصرية بكل أبعادها العمرانية والسياسية والاجتماعية، وذلك في بحث يعكف حالياً على وضع اللمسات الأخيرة لنشره من أجل توثيق مرحلة مهمة من تاريخنا الوطني، وفي سياق تطور بناء قصور الأسرة المالكة، والنهضة العمرانية الكبرى لمدينة الرياض في بداية عهد الملك سعود.
واعتماداً على المصادر الوثائقية والمكتوبة وروايات المعاصرين التي سجلها الباحث فإن الناصرية يعد من ضواحي الرياض القديمة وأصبح من أميز الأحياء وأشهرها حالياً. حيث أورد الشيخ عبد الله بن خميس في كتابه «معجم اليمامة» في طبعته التي صدرت قبل 31 عاماً موقع الناصرية، حيث أشار إلى أنه «توجد منطقة شمال الرياض كانت قبلا تعد ضاحية من ضواحيه، اسمها الفوارة وقد شملها العمران اليوم وأصبحت أحياء متعددة، وكنت أعهدها مزارع في فصل الشتاء تنبث الآبار فيها هنا وهنالك، وهي على مشارف الرياض من الناحية الشمالية الغربية يحدها من الجنوب ظهر الوشام، ومن الشمال المعذر، ومن الغرب وادي أليسن، ومن الشرق الظهر الذي يسيل منه أبو رفيع.. وأول من بعثها الملك سعود بن عبد العزيز (رحمه الله) فبنى بها قصراً سماه «الناصرية».. ثم أقيمت الأحياء في الفوارة جنوب هذا القصر وشماله وشرقه وغربه، وهي اليوم من أميز الأحياء وأشهرها.. ففي جانبها الشمالي الشرقي قصر الملك فيصل، وفي جانبها الشمالي قصر الملك خالد وحولهما قصور الأمراء: فهد ونايف وسلمان وناصر وطلال وسطام أبناء الملك عبد العزيز، وقصور عدد من الأمراء».
أما تحديد موقع الناصرية بالنسبة إلى ضاحية الفوارة فهو «موقع المزرعة التي اشتراها الملك سعود عندما كان ولياً للعهد من أحد المواطنين ويدعى «ابن ناصر» وسميت هذه المزرعة باسمه ونسبت إليه، وهي على بعد كيلومتر ونصف غرب مجمع قصور المربع. وكان امتلاك ولي العهد لهذه البقعة أو المزرعة في الثلث الأخير من عقد الخمسينات من القرن الرابع عشر الهجري، وبعد فترة وجيزة تبين أن القصر الخاص لولي العهد سعود بجوار المربع لا يفي بحاجته، ولا يمكن أن يكون كافياً لسكنى أسرته الكبيرة ولوالدته التي كانت تعيش معه داخل القصر، وهي كبرى زوجات الملك عبد العزيز، وأم أكبر أولاده الأميرة وضحا بنت محمد بن برغش بن عقاب بن عريعر الخالدية، فما كان من ولي العهد إلا أن تقدم لوالده مستأذناً في أن يختط منطقة سكنية حول مزرعته الناصرية فسر الملك عبد العزيز بتلك المبادرة ووافق عليها».
ودعا الملك سعود عندما كان ولياً للعهد إلى أول تجربة حقيقية في تحديث مدينة الرياض حينما قرر إنشاء مجمع يليق بمنصبه العالي وتطلعاته المتقدمة، وقد مر بناء قصر الناصرية بمرحلتين لكل مرحلة طرازها العمراني وأغراضها الإدارية والسكنية، حيث باشر ولي العهد سعود في المرحلة الأولى من مراحل بناء القصر بتخطيط بيوت ومساكن ومدارس ومساجد في مزرعته بالناصرية على طراز عمراني، كان مزيجاً من عناصر البناء التقليدية «اللبن والطين والجص وأخشاب الأثل» والعناصر الحديثة «الإسمنت واللبن والطين وأخشاب الدنقل والمرابيع الخشبية والألواح والباشكير والحصر». وهي مواد تستورد من الهند عن طريق موانئ الكويت والبحرين.
ورغبة من ولي العهد سعود في إنجاز هذه القرية السكنية بالسرعة الفائقة قام بتكليف رئيس ديوانه ووزير شؤونه الخاصة الشيخ فهد بن صالح بن كريديس بهذا لشأن، واقترح عليه أن يتم عمل هذه القرية بواسطة عدد من فرق العمل تحت إشراف أحد المصممين المحليين وهو عبد الله بن كليب، ومشرفين على تلك الفرق حتى يتم إنجاز هذا العمل في أسرع وقت وبأفضل طريقة ممكنة، على أن يكون البناء بواسطة بنائين من أساتذة البناء التقليديين (ستودية)، إلى جانب معلمي البناء المحدثين الذين لهم خبرة باستخدام المواد الحديثة.
وتم بناء القصر من دورين بواسطة خمس مجموعات إنشائية يشرف على كل مجموعة شخص مسؤول وهم: عبد الله بن كليب على المجموعة الأولى، وعبد المحسن بن يوسف على المجموعة الثانية، وأبو حمد بن عقيل على المجموعة الثالثة، وحسين بن صالح بن سبعان على المجموعة الرابعة، وعبد الله بن راشد بن عساكر على المجموعة الخامسة. ولم يعثر الباحث على تاريخ محدد لبدء مشروع قصر الناصرية الأول (المرحلة الأولى) عدا ما ذكره وليام فيسي من أن الأمير سعود شرع في بناء المشروع سنة 1951. والمؤكد أن الملك عبد العزيز كان يرتاد الناصرية وما حولها في الفاخرية، بحيث أصبحت منتجعاً مفضلاً للملك عبد العزيز يرتاده من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ويؤدي صلاة المغرب مع مرافقيه، ثم يعود لقصور المربع، وظل على هذه الحال إلى أن انتقل إلى منتجع البديعة بوادي حنيفة. وقد سر الملك عبد العزيز بإنجاز القصر وبحسن تنظيم مسطحاته الخضراء بزهورها وطيورها وبرك مياهها، التي تبلغ مساحتها 4 هكتارات. حيث زرعت الفواكه وأشجار الزينة المستوردة بواسطة مزارعين خبراء من الهند وبخارى. وبدأ ولي العهد يستقبل ضيوف والده فيه من أنحاء المعمورة. ويروي بعض المعاصرين أنه بعد اكتمال بناء قصر الناصرية الأول زار الأمير سعود دمشق ورأى أنوار النيون فانبهر بها، وعند عودته كلف شخصاً يدعى الميداني لإنارة القصر من جميع جوانبه بأنوار النيون، وبعد اكتمال الإنارة دعا الأمير سعود والده الملك إلى وليمة مسائية في القصر فأبدى إعجابه الشديد بفكرة سعود. ويصف أحد الكتاب الغربيين قصر الناصرية في مرحلته الأولى، التي هدم فيها بعد ذلك بقوله: «بنى سعود لنفسه في الصحراء خارج الرياض قصر الناصرية، الذي تقع خلف بواباته باحة من أشجار «التماريسك» وتتخللها حديقة من الزهور والمسطحات الخضراء وأقفاص الطيور وكذلك بركة مياه تغذى بالماء من آبار على عمق الاف الأقدام. وفي المساء يضاء القصر الرئيسي والمسجد بحوالي خمسة وعشرين ألف لمبة ملونة، بينما يعطي لون جدران القصر وهو البرتقالي الفاتح لوناً زاهياً للصحراء المظلمة». ومن خلال بعض الصور النادرة للقصر التي وجدها الباحث في أرشيف دارة الملك عبد العزيز يمكن وصف جوانب من هذا القصر التاريخي الذي توارى في فترة وجيزة.. فقد كتب على إحدى بواباته عبارة (سراي الناصرية ـ يعيش جلالة الملك ويحيا ولي العهد) يعلوها سيفان ونخلة. وعلى الباب عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وعلى البوابة الرئيسية الأخرى ذات الشكل المستطيل إلى أعلى، كتبت عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم» ويعلو البوابة مجسم ملون للسيفين والنخلة.
وفي صورة أخرى يمكن رؤية أحد أسوار القصر الرئيسية العالية وقد وضعت تحت السور كراسي حديدية متصلة لجلوس الخويا والحرس. إن صور طراز بناء هذا القصر النادر الذي جمع بين أسلوبي البناء القديمة والحديثة والذي لم ينتشر بعد ذلك في مدينة الرياض بسب غلبة الطراز الحديث وأسلوب البناء المسلح تبقى شاهدة على مرحلة عمرانية انتقالية لم يكتب لها الصمود أمام زحف أساليب العمارة الحديثة.
أما المرحلة الجديدة لبناء الناصرية فقد تمت عام 1953 بعد أن تولى الملك سعود الحكم، حيث أمر بهدم بناء قصر الناصرية الأول الذي لم يمض على إنشائه وقت يذكر. ويعلل المؤرخ عبد الرحمن الرويشد ذلك أنه بعد أن تطورت مدينة الرياض في آخر حياة الملك عبد العزيز، وأصبح التمدد العمراني فيها سريعاً، وشمل ذلك التطور تغير طراز البناء، ودخلت مواد بناء جديدة.. لم يقتصر التغير على التوسع، بل شمل التهديم وإعادة البناء في المناطق السكنية القديمة التي شقت بها الشوارع، وهدمت مبان من أجل تلك الغاية، وصدر قرار بنقل الوزارات من المنطقة الغربية إلى الرياض، أعيد تخطيط قصور وأبنية مساكن الناصرية للمرة الثانية وقد أضاف الباحث أسباباً أخرى، منها النمو العائلي لأسرة الملك، ومشاهدة الملك أثناء زياراته الدولية قبل وبعد توليه الملك لأنماط مختلفة من عمارة القصور الملكية والرئاسية في أنحاء العالم.
وتم عمل التصاميم والمخططات للمعلم محمد بن لادن للبدء في التنفيذ بطريقة التلزيم بدون مناقصة، ولم تكن قد تأسست بعد شركة مجموعة بن لادن، وإنما استقطب المعلم محمد بن لادن الشركات والمقاولين من الداخل والخارج مثل: شركة حسن أبو الفتوح، وشركة عثمان أحمد عثمان، وشركة أطلس، وشركة الأمير لجلال فايق، وجميل فايق، كما أعطى ابن لادن مقاولة سور الناصرية البالغ محيطة سبعة أميال وارتفاعه خمسة عشر قدماً لمقاول مصري يدعى شفيق السيد فرج، وبنيت في السور ثلاث دروازات «بوابات» وهي: الدروازة الرئيسية الشرقية على شارع الملك سعود، والدروازة الشمالية المطلة على المعذر، والدروازة الغربية.
ويحد الناصرية جنوباً مزرعة الفاخرية التي فيها قصور الأمير طلال بن عبد العزيز ووالدته رحمها الله وأبنائه. ويضم قصر الناصرية آنذاك القصر الخاص بالملك سعود، وقصر الضيافة، والقصور العائلية وعددها خمس وثلاثون فيلا، والمسجد الجامع ومستشفى الناصرية بإدارة أطباء يرأسهم الدكتور ربحي حمادة لخدمة من في داخل الناصرية وخارجها في تخصصات الطب والجراحة والولادة. وفي الجهة الشمالية الغربية للناصرية محطة توليد كهرباء الناصرية التي تغذي الناصرية والمعذر وغرب الرياض، وفي الجهة الشمالية الشرقية تم بناء معهد العاصمة النموذجي بتنفيذ المهندس علي حافظ وهبي وزكي إبراهيم.
وقد تحول الناصرية بعد ذلك إلى حي حيث شقت فيه شوارع فسيحة وبقيت أجزاء من معالم الناصرية وتحولت بناياته إلى قطاعات حكومية من أبرزها مبنى الأمن العام ومرور منطقة الرياض ومكتب المواليد وفلل سكنية ومراكز تجارية واحتضن الحي قبل سنوات ولايزال مبنى معهد العاصمة النموذجي ومقر مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، التي تصدر عنها صحيفة «الجزيرة» وانتقلت قبل سنوات إلى حي الصحافة. وتقع على شارع الناصرية الحالي وزارة الخارجية ومبنى الحرس الملكي كما يحتضن الشارع فندقاً مشهوراً هو فندق السعودية وأقيمت داخل الحي عمارات سكنية يقطنها مواطنون ومقيمون من الجنسيات العربية وخصوصاً السودانية، بالإضافة إلى جنسيات من الحبشة.