***
لم تكن تلك السيِّدة الفارعة الطول الطاعنة في السن ممَّن اعتاد رؤيتهنَّ من زوَّار والدته، ولا كانت ممَّن كان يُبعث إليهن إيذاناً بزيارةٍ خاصةٍ أو مع مجموعةٍ من نساء الحارة. وكانت حين تظهر في دارهم تَلْقى ترحيباً جميلاً لكنه أقلَّ حميميَّةً مما كان جليَّا لبعض سيِّدات الحارة الأخريات. كانت زياراتها أيضاً تتَّسم بالرسميَّة في ملامحها وينعكس ذلك في عدم طول مكثها. ومابين جُمل السلام والوداع كانت المسافة قصيرة بمساحة ارتشاف فنجانٍ أو اثنين من الشاي المعطِّر بالنعناع أو الدوش!
***
كانت “ست الأهل” إحدى أبرز شخصيات الحارة حضوراً وإثارة. كانت بالتأكيد ذات قدرةٍ ماليَّةٍ عالية يدلُّ عليها بيتها الذي كان من أكبر البيوت وكانت تعيش فيه بمفردها. وكان معروفاً أن معظم الأراضي المحيطة به ملك لها ومنها أرضٌ اشتراها والده. وقد عرف من تلك الوثيقة أن “ست الأهل” اسمها الحقيقي الذي ظلَّ طويلاً يحسبه كنية مجاملة. علاقة “ست الأهل” بوالده كانت علاقةً يسودها المعروف من احترامٍ يفرضه وقاره. لم تكن الوحيدة التي تأتمن والده وإن كانت الأكثر تعاملا. وكانت تستودعه بكلِّ ثقة بعض مالها في تعاملاتٍ مباشِرةٍ سريعة لا يذكر أنه رآها تُختتم أو تُبتدأ بتوقيعٍ أو ختم. وما يزال يذكر وهو صبي يتسلَّل متعمِّدا أن رزم المئات الحمراء كانت حاضرة في معظم الزِّيارات.
***
حضور “ست الأهل” خارج البيت كان أكثر، وهناك العديد من القصص التي تُروى عنها وعن جلسات الطرب في البستان المجاور لبيتها مع بعض من الفتية الذين كانوا يعدُّونها أمَّاً كما كانت تعدُّهم أهلاً. وكان الكلُّ رغم التساؤلات المخفيَّة عمَّن هي ومِن أين ومَن لها مِنْ أهل ومَن يقضي لها شئونها، يبدي لها تقديراً تفرضه بصرامتها. ولعلَّ المرة الوحيدة التي سمعها تتحدث إليه كان حين قصدها ذات يوم حاملاً طبقاً من طعامٍ أرسلته والدته إليها. ولعلَّ شيئاً ما صادف تلك الزيارة من تقديرٍ لنوع الهديَّة أو كمِّيتها أو ربما لتوقيتها. وكان في البيت شابُّ لأوَّل مرة، عرف منها أنَّه أحد أقربائها البعيدين كما قدَّمته. وقد ابتسمت “ست الأهل” ودعته أن ينتظر قليلاً.. وظلَّ وهو يراها تتقدَّم إلى الخزينة رافعةً فستانها ليبدو السروال المخطَّط و “دِكَّة” تعلَّقت بها كميَّةٌ من المفاتيح. “تعال يا ولد” كانت خاصةً هذه المرة، إذ تبعها تربيتٌ على رأسه اكتمل بدسِّ مبلغ أربعة قروشٍ في يده، كانت كفيلةً بسرور ذلك الصبي لعدة أيَّام، وبإظهاره تقديراً خاصَّاً متأخِّراَ لـ “ست الأهل”، وإن ظلَّ يتساءل كالآخرين عمَّن ومِن أين ومن لها!
***
كانت زيارة الملك سعود إلى المدينة المنورة حدثاً مهمَّاً. وكان مما اعتاده أن يزور حارات المدينة المختلفة. وأصبح من الطبيعي أن يقف موكب الملك الكبير عند مروره بحارة العوالي في طريقه إلى بلاد الأمير ليرتشف الملك من “ست الأهل” فنجان قهوةٍ يعيده مع فيضٍ من كرمه. وكانت “ست الأهل” تتحدَّث كثيراً عن تلك الوقفة بدءاً بما كلَّفها إعداد دلَّة القهوة تلك من مالٍ وحِرْص، كما كانت تتحدَّث عن إطراء الملك لها، والذي لا شك أنها كانت تبالغ فيه كثيرا، وسط شدوه آذان السامعات وأبصارهن! في إحدى زيارات الملك، خرجت “ست الأهل” إلى النقطة المعتادة منتظرة الموكب. وكان رئيس الشرطة أو أحد كبار مسئوليها عارفاً بالمعتاد السنوي الذي رأى عدم مناسبته فأشار إليها ناهراً بأن الملك “مو فاضي لك”. وجادلته بصوتها طويلاً، وأثناء ذلك وصل الموكب وتوقَّف كعادته.. وأخذت “ست الأهل” الدلَّة ولكنها لم تصب بنفسها القهوة للملك، والتفتت إلى المسئول الذي منعها قائلة “هيا يا سعود صب القهوة لطويل العمر”!
***
بقيت “ست الأهل” حاضرةً زمناً طويلا.. وفي غمرة مرض والده الطويل لم يتنبَّه إلى ما كان يجري في الحارة من تغيُّرات.. وحين التفت بعد انتقال أبيه إلى الرفيق الأعلى سأل عن ست الأهل. لم يسمع جواباً مُتَّفقاً عليه.. فهناك من ذكر أنها تزوَّجت شرطيَّاً واشترت له سيارة “شفر” حمراء! وأضاع لها ما جمعته، وهناك من قال أنها توفيت فجأة وظهر وارثون عاد إليهم ما كان لها من تلك الحارة وباعوه دون مبالاةٍ بالظهور.. وهناك من قال.. وهناك من قال. إلا أنها بقيت في ذاكرة الحارة التي بدأت بالتلاشي حين بعثرت المشاريع ملامحها وأهلها.
***
أما هو فما يزال يذكر الأربعة قروش بابتسامة، وفي عينيه “صك” الأرض: حضر إلي أنا عبد القادر بن أحمد الجزائري، القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة المنورة كل من……..، وست الأهل علام!