من محاربة تعليم البنات إلى 300 كلية ومعهد و2.5 مليون طالبة
يستوقف المتتبع لمسيرة تاريخ تعليم المرأة السعودية شواهد عدة، دلّت على اهتمام ولاة الأمر بها، بوصفها ركيزة مهمة في بناء المجتمع، كدعم إنشاء كتاتيب المرأة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود، لتعليمها أمور دينها ودنياها، وإقرار التعليم النظامي للبنات في عام 1379هـ، وما أعقب ذلك من نهضة تعليمية شاملة، جعلتها شريكاً فاعلاً في تنمية الوطن، في ضوء ما نصت عليه تعاليم الدين الإسلامي، وناسب فطرتها الإنسانية.
و«الكتاتيب» هو الاسم التقليدي لمدرسة تعليم القراءة والكتابة، وتعد من المؤسسات التعليمية المهمة التي أوجدتها المجتمعات الإسلامية لتعليم الصغار وتربيتهم التربية الإسلامية الجيدة. واهتم المسلمون بها على مر العصور لتعليم النشء القرآن الكريم، والحديث، والقراءة والكتابة. وتوارث الآباء والأجداد هذه البادرة الخيّرة حتى بدايات بناء الدولة السعودية الثالثة، التي جعلتها تشمل الأسرة كاملة، وتطورت في ما بعد إلى مدارس شبه نظامية، فمدارس تعليم عام، ثم تعليم جامعي متعدد التخصصات.
وعلى رغم انشغال الملك عبدالعزيز بعد توحيد البلاد، ببناء الدولة وتأسيس أنظمتها الداخلية والخارجية، إلا أنه لم ينشغل عن التفكير في تعزيز مكانة المرأة في المجتمع، أسوة بالرجل، وفق القيم والمبادئ الشرعية، فدعم إنشاء أكثر من 180 داراً للكتاتيب، إضافة إلى الدور التي كانت موجودة قبل عهده التي انضم إليها كثير من النساء لتعلم علوم الدين الشرعية والحياتية.
واهتمت الأميرات، في عهد الملك عبدالعزيز، بالعلم الشرعي، وعملن على نشره من خلال جعل ما يقتنين من مخطوطات وكتب فقهية تاريخية «وقفاً خيرياً على طلبة العلم»، كما فعلت حرم الملك المؤسس الأميرة حصة بنت أحمد السديري التي جعلت مخطوطة «الفروع في الفقه» للشيخ الحنبلي شمس الدين محمد بن مفلح المتوفى سنة 763 هـ، وقفاً على طلبة العلم ليستفيدوا منها، من دون أن تُباع عليهم، إضافة إلى أوقاف سارة بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبنات الإمام تركي بن عبدالله، وبنات الإمام فيصل بن تركي، التي تحتفظ «دارة الملك عبدالعزيز» بنسخ منها.
وكانت الكتاتيب بادرة خير على المرأة السعودية في ذلك العصر، إذ تعلمت الكبيرات والصغيرات فيها المزيد من المعارف الشرعية والدنيوية التي تواءمت في مضامينها مع مستوى أعمارهن. وقالت أستاذة علم التاريخ عضو مجلس الشورى الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي: إن الكتاتيب في عهد الملك عبدالعزيز اهتمت في منظومتها بتعليم النساء الكبيرات اللاتي كن منشغلات عن التعليم في أمور بيوتهن، وتحمل صعوبات الحياة مع الرجل، فتم تدريسهن القرآن الكريم، وحفظ سوره القصار، والتفقّه بأحاديث السنة النبوية الشريفة.
وأشارت، في حديث لوكالة الأنباء السعودية، إلى أن الكتاتيب اهتمت كذلك بتعليم الفتاة التي كانت تشارك أسرتها وهي في سن مبكرة من عمرها شظف العيش، وقلة الإمكانات في ذلك الزمان، لتسهم بتعليمها في صياغة مستقبل الأمة بوصفها المربية للنشء، فتعلمت الفتيات علوم القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومبادئ القراءة والكتابة، ليتطور الحال بعدها على مر السنين إلى أن التحقن بالمدارس شبه النظامية التي كانت منتشرة في المملكة.
وأفادت أن تأثير الملك عبدالعزيز في تطور تعليم المرأة السعودية كان واضحاً في عهده، مستشهدة في ذلك السياق بوثيقة تاريخية أوضحت أنه ساند مشروعاً تنموياً رُفع إلى مجلس الشورى في 21 صفر 1350هـ، يتعلق بإصلاح كتاتيب المرأة في منطقة الحجاز، والاستزادة منها ومعاونتها قدر الإمكان.
في مقابل ذلك، برز في الجزيرة العربية كثير من الفقيهات اللاتي حرصن على تعليم المرأة الأمور الشرعية، خصوصاً في مكة المكرمة والمدينة المنورة بسبب وجود الحرمين الشريفين، ووفقاً لأستاذة التاريخ الإسلامي الحضاري بجامعة الملك سعود الدكتورة سعاد بنت أحمد العمري، عمل كثير من الفقيهات على تخصيص غرف للكتاتيب في منازلهن لاستقبال الراغبات في تعلّم القرآن الكريم وحفظه، وبلغت في عهد الملك المؤسس أكثر من 180 داراً للكتاتيب في مختلف أرجاء البلاد.
وقالت العمري لوكالة الأنباء السعودية: «إن دور كتاتيب المرأة خلال عهد الملك عبدالعزيز بلغت في منطقة الحجاز 70 داراً.ومرّت مسيرة تعليم المرأة السعودية بعد ذلك بمرحلة المدارس الأهلية والخيرية شبه النظامية التي كان معظمها منتشراً في الحجاز، ثم انتقلت لما يعرف بمرحلة التعليم النظامي، الذي واكب تأسيس الرئاسة العامة لتعليم البنات، إذ أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود أمراً ملكياً يقضي بإنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات في تاريخ 2 / 4 / 1379هـ. وشملت القطاعات التعليمية التابعة للرئاسة آنذاك: دور الحضانة، ورياض الأطفال، والتعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، ومراكز للتدريب على التفصيل والخياطة والمعاهد الثانوية المهنية، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، والتعليم الخاص، والكليات المتوسطة، ومدارس محو الأمية والتعليم الأهلي، والتعليم العالي، إضافة إلى خدمات الرعاية الصحية، والنقل، والخدمات الاجتماعية.
ونشرت «صحيفة أم القرى» في 21 ربيع الآخر 1379هـ، الأمر الملكي الذي أصدره الملك سعود لإنشاء مدارس لتعليم البنات في المملكة، إذ تُعنى بتدريس العلوم الشرعية، وغير ذلك من العلوم التي تتوافق مع العقيدة الإسلامية، وتنفع المرأة في كيفية تدبير بيتها، وتربية أبنائها. ووجد ذلك الأمر الملكي ترحيباً كبيراً من الشعب السعودي، إذ عبروا في تصريحات نشرتها «صحيفة أم القرى» في 28 ربيع الآخر عام 1379هـ، عن سعادتهم به، مؤكدين أنه سيسهم في تفقيه المرأة بكيفية بناء الأسرة والمجتمع على نحو أفضل.
وامتداداً لدعم ولاة الأمر لتعليم المرأة السعودية، فإنه يوجد الآن أكثر من 5ر2 مليون طالبة يدرسن في مختلف مراحل التعليم العام، ويتلقين تعليمهن على يد 300750 معلمة، في 18710 مدارس للبنات في محافظات ومناطق المملكة، كما يدرس منهن 192.515 طالبة في البكالوريوس و498.24 طالبة في الدراسات العليا، موزعات في أكثر من 300 كلية ومعهد عالٍ في المملكة، وتمثل المرأة ما نسبته 8.51 في المئة من إجمالي من طلبة الجامعات الحكومية و49 في المئة من طلبة الجامعات الأهلية، وأكثر من ثلث مبتعثي برنامج الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي، بحسب إحصاءات وزارة التعليم.
وتوثيقاً لتلك المحطات المهمة في تاريخ تعليم المرأة السعودية، فقد أنجزت دارة الملك عبدالعزيز أخيراً، تركيب 225 قاعدة عرض زجاجية في عمادة المكتبات بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في الرياض، تحوي كثيراً من المواد ذات العلاقة التاريخية بتعليم المرأة في الدولة السعودية الأولى التي تأسست عام 1157هـ، حتى بداية التعليم النظامي في المملكة 1379هـ. وانتهت الدارة ممثلة في مركز المخطوطات المحلية، ومركز الملك سلمان بن عبدالعزيز للترميم والمحافظة على المواد التاريخية من إنجاز متطلبات العمل خلال 11 شهراً، شملت جمع المواد التاريخية والوثائق والمخطوطات المناسبة، وفحصها وصيانتها وتعقيمها، وترميمها، وتجليدها، بما يضمن بقاءها للعرض لسنوات طويلة.