سعود المطيري
غير الزيارات التي كان مرافقا خلالها مع والده وهو حينذاك وليا للعهد قام الملك سعود بن عبدالعزيز بثلاث زيارات لمدينة بريدة كانت الأولى في غرة جمادى الآخرة عام 1373ه وبعد ثلاثة أشهر فقط من توليه للحكم والثانية في جمادى الأولى عام 1377ه والثالثة كانت في يوم الثلاثاء 25ربيع الثاني 1379ه وبقي هناك حتى يوم الجمعة عند ما صلى في جامع بريدة وأم المصلين في الجامع.
وفي هذه الزيارة تم افتتاح بعض المشروعات الإستراتجية بالبلدة مثل الجامع الكبير الذي كان قد تضرر من سيول سنة الهدام عام 1376ه وجدد بناءه بواسطة الصخور بعد ما كان مبنيا من الطين، وشيد بواسطة فلسطيني المهجر. وكذلك المكتبة العامة والتي تقع إلى الشرق من الجامع، المذكور والمستشفى المركزي بديل للمستشفى الطيني على شارع الخبيب، وافتتاح الثانوية العامة، والمعهد العلمي. ومشروع الدغمانيات الكبير الذي أستخدم فيه أحدث الوسائل الزراعية الألمانية وبإدارة المانية وفي هذه الزيارة أيضا ووفقا لما يرويه الكاتب والمؤرخ والروائي موسى النقيدان سواء في كتبه أو سلسلة مذكراته في صحيفة عاجل أو على السنة أبطال رواياته وكان عمره آنذاك عشر سنوات فقط كان هناك دعوات كثيرة في برنامج الملك تعتبر أساسية، وأخرى تأتي على الطريق مفاجأة وهو ذاهب لتلبية دعوة أساسية. كتلبية دعوة رجل مسن على قارعة الطريق يحمل دلته وفنجانه. يقف الملك ويفتح نافذة السيارة ويتناول الفنجان ثم يغادر . وأحياناً تكون الواقفة على قارعة الطريق عجوزاً مسنة تؤشر بفنجانها في لحظة مرور الملك، فيتوقف ويشرب الفنجان ويسأل العجوز عن أحوالها. وجميعها دعوات عرضية مشابهة. تعد تعبيرا صادقا تنطلق من أرواح المحبين بلا مقدمات وبلا بهرجات مصطنعة.
ويذكر النقيدان حادثة طريفة أثناء توجه الملك إلى الوسعة لتلبية دعوة أحدى الوجهاء. بسيارة واحدة فقط إذ لم يكن كما يقوله بحاجة إلى موكب خاص ولا حماية، لأنه يدرك تماماً أنه بحماية الناس وأنه في قلوبهم. كان سائق السيارة رجلا من أهل بريدة يدعى الذيب الذي حاول أن يعبر بالسيارة من خلال طريق ضيق وأصر على ذلك بالرغم أن الملك أشار عليه أن يوقفها بالوسعة ثم الذهاب مشياً على الأقدام. بعدها حصلت الكارثة عند ما استحالت السيارة بين الجدارين وقد حُشرت السيارة وصار موقف الذيب لا يحسد عليه كما أن الموقف برمته أصبح محرجاً لكل الأطراف حتى الداعون أصابهم الذعر والارتباك لكن الجمهور اتخذوا القرار الحاسم، وقرروا سحب السيارة بالقوة. بعضهم تسلق السيارة ليذهب إلى الجهة الأمامية ليدفعها إلى الوسعة، والبعض الآخر وقف خلفها لسحبها وتمت المحاولة بنجاح وسُحبت السيارة إلى الوسعة فنزل الملك سعود غاضباً على السائق، ورفع يده إلى رأسه لتناول (الشطفة) التي تشبه العقال لمعاقبة السائق ولكنه تراجع في النهاية وبدل معاقبة السائق رفع يده محيياً الجماهير التي كانت تهتف مرحبة (بأبو الشعب).
ومن الأحداث التي ظلت عالقة في أذهان البريداويين فترة طويلة حفل بعض الحرفيين المتميز (سماهم) والذي اعد لهذا الحدث الكبير ضمن العديد من الاحتفالات عند ما غنت بريدة عن بكرة ابيها:
هلا بالعاهل اللي جيته مثل الحيا المامور
ربيع الدار مدرارٍ على الديرة واهاليها
لفا سلطان نجد وزادت الدنيا فرح وسرور
ربيع المملكة شوفة سعود وعاش حاميها
يقول النقيدان واصفا هذا الحدث (مع بعض التصرف): من كان يراقب حركات السوق قبل الزيارة بأسبوع لابد أن يشكك في الأمر.. تحركات غريبة على غير العادة، هرج ومرج، ولغة خافتة لا تكاد تسمعها،وأصوات يتداولها هؤلاء تدل على شيء ما سيحدث. ومشالح تُشاهد يلبسونها لأول مرة، والحركة بينهم بأقصى سرعتها، مشاورات بين مجموعة هنا، وأخرى هناك، أصوات ترتفع محتجة سرعان ما تتفق، وجهاء يأتون ويقولون شيئاً، ويغادرون بسرعة. المناداة على بضائعهم أصبحت هادئة وبلا حماس. يبيعونها بأي سعر يفرضه الزبون ويقبلونه بسرعة، بعضهم بدأ يلقي فحصة عابرة على جدران المحال وكأنه يشاهده لأول مرة، ثم يمط شفتيه دليلاً على عدم الرضا. هناك صندوق يحمله بعض الرجال ويمرره بطريقة سرية تقذف به بعض النقود بكل استحياء. وهناك رؤوس تتمايل يميناً ويساراً مع بعض الكلمات الخجولة تعبيراً عن ضيق ذات اليد.
بعد أسبوع من هذا كله جاء يوم جديد. صارت البضائع المجلوبة إلى السوق من نوع آخر، وتحولت أعمالهم الروتينية إلى أعمال أخرى جديدة.
بدأوا ينسجون على الجدران الطينية قماشاً من الكريم الأخضر وتحولت الجدران إلى لون سندسي جميل، وألبسوا أبواب الدكاكين قماش الكريم الأخضر الغامق، وفرشوا أرضية السوق الترابية والمغموسة بالدهون فرشوها بالسجاد الإيراني الزاهي. فتحات السوق الشمالية والجنوبية غطيت بالستائر من الكريم الأبيض، وعلى يسار الداخل إلى السوق من الناحية الشمالية بني موقد القهوة والشاي والحليب، صفت الدلال البغدادية والرسلانية وهي تلمع كالذهب وأباريق الشاي المشجرة، ودلال الحليب الرفيعة وتقلد الرجال الأحزمة الحربية، وتوجوا رؤوسهم بالعُقل لأول مرة، وحملوا السيوف الهندية، والفقير منهم حمل الفؤوس والسواطير والسكاكين البلدية .تغيرت لغة الأصوات القديمة، والمناداة إلى صياح الفرسان في ساحة الوغى، وصاروا يتقاذفون أشعار الحرب الصحراوية وهم مصطفون على جوانب السوق ينتظرون قدوم جلالته على أحر من الجمر. ثم جاء الملك! فبلغت الأرواح الحناجر، وتعالت أصوات الترحيبات والتبريكات بقدوم أبوالشعب فترجل من سيارته فجذبوه إلى محفل القهوة والشاي. ثم قيلت أشعار عند محفل الشاي بعضها سبق أن سمعه الملك وبعضها يسمعه لأول مرة. عندها نهض الملك إلى مكان العرضة الذي يقع بمنتصف السوق، وقد اصطفوا وهم يحملون السيوف والسواطير والسكاكين، فغاص جلالته بينهم. دقت طبول الحرب، وصهل الفرسان، وأرتج المكان وارتجت معه كل بيوت الحي الدبلوماسي. وعلت أصوات الحرب وبدأوا يتقاذفونها بينهم وتمايلت أجسادهم ورؤوسهم طرباً وحمستهم الأشعار إلى الاستعجال بالمعركة. وكل منهم يزاحم من بجانبه حتى يصل إلى أقرب نقطة، حتى وصلت الأمور إلى أن رؤوس العميان الثائرة اصطدمت برأس الملك عدة مرات. حتى الحشود من الرجال والنساء والأطفال الذين ضاقت بهم الطرقات المؤدية إلى المكان أصبحوا تواقين للحرب.
غير الزيارات التي كان مرافقا خلالها مع والده وهو حينذاك وليا للعهد قام الملك سعود بن عبدالعزيز بثلاث زيارات لمدينة بريدة كانت الأولى في غرة جمادى الآخرة عام 1373ه وبعد ثلاثة أشهر فقط من توليه للحكم والثانية في جمادى الأولى عام 1377ه والثالثة كانت في يوم الثلاثاء 25ربيع الثاني 1379ه وبقي هناك حتى يوم الجمعة عند ما صلى في جامع بريدة وأم المصلين في الجامع.
وفي هذه الزيارة تم افتتاح بعض المشروعات الإستراتجية بالبلدة مثل الجامع الكبير الذي كان قد تضرر من سيول سنة الهدام عام 1376ه وجدد بناءه بواسطة الصخور بعد ما كان مبنيا من الطين، وشيد بواسطة فلسطيني المهجر. وكذلك المكتبة العامة والتي تقع إلى الشرق من الجامع، المذكور والمستشفى المركزي بديل للمستشفى الطيني على شارع الخبيب، وافتتاح الثانوية العامة، والمعهد العلمي. ومشروع الدغمانيات الكبير الذي أستخدم فيه أحدث الوسائل الزراعية الألمانية وبإدارة المانية وفي هذه الزيارة أيضا ووفقا لما يرويه الكاتب والمؤرخ والروائي موسى النقيدان سواء في كتبه أو سلسلة مذكراته في صحيفة عاجل أو على السنة أبطال رواياته وكان عمره آنذاك عشر سنوات فقط كان هناك دعوات كثيرة في برنامج الملك تعتبر أساسية، وأخرى تأتي على الطريق مفاجأة وهو ذاهب لتلبية دعوة أساسية. كتلبية دعوة رجل مسن على قارعة الطريق يحمل دلته وفنجانه. يقف الملك ويفتح نافذة السيارة ويتناول الفنجان ثم يغادر . وأحياناً تكون الواقفة على قارعة الطريق عجوزاً مسنة تؤشر بفنجانها في لحظة مرور الملك، فيتوقف ويشرب الفنجان ويسأل العجوز عن أحوالها. وجميعها دعوات عرضية مشابهة. تعد تعبيرا صادقا تنطلق من أرواح المحبين بلا مقدمات وبلا بهرجات مصطنعة.
ويذكر النقيدان حادثة طريفة أثناء توجه الملك إلى الوسعة لتلبية دعوة أحدى الوجهاء. بسيارة واحدة فقط إذ لم يكن كما يقوله بحاجة إلى موكب خاص ولا حماية، لأنه يدرك تماماً أنه بحماية الناس وأنه في قلوبهم. كان سائق السيارة رجلا من أهل بريدة يدعى الذيب الذي حاول أن يعبر بالسيارة من خلال طريق ضيق وأصر على ذلك بالرغم أن الملك أشار عليه أن يوقفها بالوسعة ثم الذهاب مشياً على الأقدام. بعدها حصلت الكارثة عند ما استحالت السيارة بين الجدارين وقد حُشرت السيارة وصار موقف الذيب لا يحسد عليه كما أن الموقف برمته أصبح محرجاً لكل الأطراف حتى الداعون أصابهم الذعر والارتباك لكن الجمهور اتخذوا القرار الحاسم، وقرروا سحب السيارة بالقوة. بعضهم تسلق السيارة ليذهب إلى الجهة الأمامية ليدفعها إلى الوسعة، والبعض الآخر وقف خلفها لسحبها وتمت المحاولة بنجاح وسُحبت السيارة إلى الوسعة فنزل الملك سعود غاضباً على السائق، ورفع يده إلى رأسه لتناول (الشطفة) التي تشبه العقال لمعاقبة السائق ولكنه تراجع في النهاية وبدل معاقبة السائق رفع يده محيياً الجماهير التي كانت تهتف مرحبة (بأبو الشعب).
ومن الأحداث التي ظلت عالقة في أذهان البريداويين فترة طويلة حفل بعض الحرفيين المتميز (سماهم) والذي اعد لهذا الحدث الكبير ضمن العديد من الاحتفالات عند ما غنت بريدة عن بكرة ابيها:
هلا بالعاهل اللي جيته مثل الحيا المامور
ربيع الدار مدرارٍ على الديرة واهاليها
لفا سلطان نجد وزادت الدنيا فرح وسرور
ربيع المملكة شوفة سعود وعاش حاميها
يقول النقيدان واصفا هذا الحدث (مع بعض التصرف): من كان يراقب حركات السوق قبل الزيارة بأسبوع لابد أن يشكك في الأمر.. تحركات غريبة على غير العادة، هرج ومرج، ولغة خافتة لا تكاد تسمعها،وأصوات يتداولها هؤلاء تدل على شيء ما سيحدث. ومشالح تُشاهد يلبسونها لأول مرة، والحركة بينهم بأقصى سرعتها، مشاورات بين مجموعة هنا، وأخرى هناك، أصوات ترتفع محتجة سرعان ما تتفق، وجهاء يأتون ويقولون شيئاً، ويغادرون بسرعة. المناداة على بضائعهم أصبحت هادئة وبلا حماس. يبيعونها بأي سعر يفرضه الزبون ويقبلونه بسرعة، بعضهم بدأ يلقي فحصة عابرة على جدران المحال وكأنه يشاهده لأول مرة، ثم يمط شفتيه دليلاً على عدم الرضا. هناك صندوق يحمله بعض الرجال ويمرره بطريقة سرية تقذف به بعض النقود بكل استحياء. وهناك رؤوس تتمايل يميناً ويساراً مع بعض الكلمات الخجولة تعبيراً عن ضيق ذات اليد.
بعد أسبوع من هذا كله جاء يوم جديد. صارت البضائع المجلوبة إلى السوق من نوع آخر، وتحولت أعمالهم الروتينية إلى أعمال أخرى جديدة.
بدأوا ينسجون على الجدران الطينية قماشاً من الكريم الأخضر وتحولت الجدران إلى لون سندسي جميل، وألبسوا أبواب الدكاكين قماش الكريم الأخضر الغامق، وفرشوا أرضية السوق الترابية والمغموسة بالدهون فرشوها بالسجاد الإيراني الزاهي. فتحات السوق الشمالية والجنوبية غطيت بالستائر من الكريم الأبيض، وعلى يسار الداخل إلى السوق من الناحية الشمالية بني موقد القهوة والشاي والحليب، صفت الدلال البغدادية والرسلانية وهي تلمع كالذهب وأباريق الشاي المشجرة، ودلال الحليب الرفيعة وتقلد الرجال الأحزمة الحربية، وتوجوا رؤوسهم بالعُقل لأول مرة، وحملوا السيوف الهندية، والفقير منهم حمل الفؤوس والسواطير والسكاكين البلدية .تغيرت لغة الأصوات القديمة، والمناداة إلى صياح الفرسان في ساحة الوغى، وصاروا يتقاذفون أشعار الحرب الصحراوية وهم مصطفون على جوانب السوق ينتظرون قدوم جلالته على أحر من الجمر. ثم جاء الملك! فبلغت الأرواح الحناجر، وتعالت أصوات الترحيبات والتبريكات بقدوم أبوالشعب فترجل من سيارته فجذبوه إلى محفل القهوة والشاي. ثم قيلت أشعار عند محفل الشاي بعضها سبق أن سمعه الملك وبعضها يسمعه لأول مرة. عندها نهض الملك إلى مكان العرضة الذي يقع بمنتصف السوق، وقد اصطفوا وهم يحملون السيوف والسواطير والسكاكين، فغاص جلالته بينهم. دقت طبول الحرب، وصهل الفرسان، وأرتج المكان وارتجت معه كل بيوت الحي الدبلوماسي. وعلت أصوات الحرب وبدأوا يتقاذفونها بينهم وتمايلت أجسادهم ورؤوسهم طرباً وحمستهم الأشعار إلى الاستعجال بالمعركة. وكل منهم يزاحم من بجانبه حتى يصل إلى أقرب نقطة، حتى وصلت الأمور إلى أن رؤوس العميان الثائرة اصطدمت برأس الملك عدة مرات. حتى الحشود من الرجال والنساء والأطفال الذين ضاقت بهم الطرقات المؤدية إلى المكان أصبحوا تواقين للحرب.
جريدة الرياض